قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه مطلقاً، أو بشرط البقاء، أو اشترى تمرا ً قبل بدو صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا، أو جزة أو لقطة فنمتا، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها، أو عرية فأثمرت، بطل والكل للبائع] قوله: [وإن باعه مطلقاً]: تقدم أن البيع المطلق هو الذي ليس فيه شرط التبقية ولا شرط القطع، أي: يبيعه بيعاً خالياً من الشرط، وينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن سياق الكلام هنا في الثمرة التي لم يبدُ صلاحها؛ لأن الكلام متصل بقوله: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه].
فيرد
Q الحكم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فلو حصل وباعه قبل بدو الصلاح؟ قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه]، أي: قبل بدو الصلاح، [بيعاً مطلقاً.
بطل]، فالأصل يقتضي عدم جواز البيع، خلافاً للحنفية، إذ يرون أنه لو باعه بيعاً مطلقاً فإنه يجوز، ويجب على المشتري أن يقطع فوراً.
فلو باعه بيعاً مطلقاً وتم البيع بينهما مخالفا للسنة التي ذكرنا، ومضى الحال سواءٌ علم الحكم أم جُهل، ثم بعد أربعة أشهر لما بدا الصلاح سأل أهل العلم، فقالوا: هذا البيع لا يجوز، فماذا يكون حكمه؟ الثمرة الآن صالحة، فهل تكون الثمرة ملكاً للبائع، بناء على أن البيع فاسد، والأصل أنها ملك له ولم تخرج من يده؟ أم أنها ملك للمشتري بناء على أنه لم يتدارك الفساد؟ بين رحمه الله تعالى أنها ملك للبائع، وهذا هو الصحيح؛ لأن هذا البيع فاسد من أصله، فلما تبايع معه بيعاً غير شرعي، فمعناه أن الثمرة ما زالت باقية في ملك البائع، وأن المشتري لا يملك هذه الثمرة؛ لأن الإيجاب والقبول والصيغة وقعت على وجه غير معتبر، فوجودها وعدمها على حد سواء، لكن ما الحكم حينئذ؟
صلى الله عليه وسلم يُلزم البائع برد الثمن، ويقال: هذا البيع منفسخ، ثم يقال للمشتري: الآن بدا الصلاح فإذا أردت أن تشتري فلتشتر من جديد؛ لأن البيع الأول فاسد، فإن أحببت أن تنصرف بمالك فلا إشكال، وإن أردت هذه الثمرة فادفع حقها الآن؛ لأن الإيجاب والقبول في بيعكما باطل لا قيمة له، فالثمرة ما زالت في ملك صاحبها، ولكن ما الفائدة في هذا؟ الجواب: في بعض الأحيان يبيعه الثمرة قبل بدو صلاحها، على أن السوق غالٍ، فتكون قيمتها -مثلاً- مائة ألف، ثم لما بدا الصلاح أصبح السوق كاسداً، فتنزل القيمة، فلربما اشتراها بخمسين ألفاً، فيكون أخف وأرفق بالمشتري، وربما يكون العكس؛ لأن فيها مخاطرة، فتكون القيمة أقل.
فإذا بدا الصلاح قلنا: إذا أردتما أن تنشئا العقد فأنشئا من الآن، ولو أرادا أن لا ينشئا عقداً، أو قال البائع: لا أريد أن أبيع، أو رجعت عن بيعي وأريد أن آخذ الثمرة بنفسي كان له ذلك؛ لأن الثمرة ما زالت في ملكه وهو أحق بها، ويجب عليه أن يرد للمشتري ماله كاملاً.
قوله: [أو بشرط البقاء]: هي الحالة الثانية، اشترى قبل بدو الصلاح، وقال له: أشترط أن تبقي لي الثمرة حتى يبدو الصلاح، فسواء علم الحكم أم جهله فالبيع فاسد، وحينئذ إذا رفع الأمر إلى القاضي فإنه يحكم بانفساخ البيع ووجوب رد المال إلى المشتري، ورد الثمرة إلى البائع.
قوله: [أو اشترى ثمراً قبل بدو صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]: أي: لو جاءك رجل وأنت عندك مائة نخلة، لم يبدُ صلاح ثمرها، فقال: أشتريها منك، قلت له: أنا لا أبيعها إلا بشرط أن تقطعها، قال: قبلت، واشتراها منك بعشرة آلاف ريال على أنه يقطعها، ثم جاءته ظروف فلم يستطع القطع، أو تهرب وماطل، حتى بدا صلاح ثمرها، فما الحكم؟ الحكم حينئذ أن نقول: إن هذا العقد الذي وقع بينكما وقع بشرط القطع مصححا، وإلا الأصل عدم صحته، فلما فات الوصف الشرعي المعتبر للتصحيح فإنه يرجع إلى حكم الأصل ببطلانه، فترد له المال، ولا حق له بالمطالبة بالثمرة، وتنشئان بيعاً جديداً إذا أردت البيع.
قوله: [أو جزة أو لقطة فنمتا]: أي: إذا جاء واشترى منه برسيماً وهو على طول شبر، فالبرسيم على شبر له قيمة، والبرسيم على شبرين له قيمة، ففي بعض الأحيان يأتي المشتري، وتأتيه ظروف فيقول: أريد البرسيم الآن، فتقول له: ليس عندي إلا هذا البرسيم الذي هو في نصف الاكتمال، فيقول: بكم أشتريه منك؟ فيقول البائع مثلاً: عشرة أحواض بمائة، قال: قبلت، وأعطاه المائة، ثم إذا به يماطل ويتأخر، أو جاءه ظرف، حتى أصبح البرسيم فوق ذلك بكثير، فيصبح المبيع الحاضر غير الذي أوجبا البيع عليه من قبل، وقد تكلف البائع مؤونة سقيه والقيام عليه، فحينئذ ينفسخ البيع الأول؛ لأن الجزة التي تعاقدتما عليها ليست بموجودة، ففاتت بتفويت المشتري، وحينئذ يتحمل مسئولية فوات البيع وترد له القيمة، وينُشئان بيعاً جديداً، وغالباً ما يكون البرسيم بضعفي قيمته؛ لأنه لما نما كان غير الذي اتفقا عليه.
إذاً: الثمرة إذا صلحت وبدا صلاحها، فقيمتها غير قيمتها قبل بدو الصلاح، ولا شك أن المشتري إذا أراد أن يتلاعب، وفعل ذلك عن تلاعب لا شك أن هذا من خديعة المسلم، ولذلك يمثل بعض العلماء بأن الغش كما يكون من البائع للمشتري يكون كذلك من المشتري للبائع، ومن غِشِّ المشتري للبائع أن يشتري بشرط القطع، فإذا به يؤخر ويماطل حتى تكتمل الثمرة، فيأتي ويأخذها، ولا شك أن هذا إذا فعله على قصد التلاعب، فإنه معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حرّم أن يفعل المسلم بأخيه هذا، فيشتري منه الشيء بنصف قيمته على أن يأخذه فوراً، وهو يضمر ويريد منه ما هو أكمل، مما يستحق قيمة أكثر، وليس هذا من النصح للمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فمما ينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه، وهذا ليس من النصح.
فقوله: [أو جزة]، أي: من كراث، أو برسيم ونحوه، [أو لقطة]، أي: من قثاء وباذنجان ونحوه، كالقرع والباميا، ونحو هذه الأشياء التي تلتقط، فاشتراها على هيئة ثم تركها حتى زادت، فالذي أوجب البيع عليه غير الذي صار إلى هذه الحالة، فوجب أن ينشأ العقد على الذي صار إليه الحال، ويلغى البيع في الأول.
قوله: [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]: أي: إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر، أي: زيادة على الذي اتفقا عليه، واختلطت الزيادة بالأصل، و [اشتبها]، فما استطاعا أن يميزا الذي اتفقا عليه من الذي لم يتفقا عليه، فحينئذ يصير المال ما بين حلال وحرام، والقاعدة أنه إذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، في كلب الصيد إذا أُرسل للصيد، وأكل الكلب من الفريسة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه)؛ لأنه إذا أكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فصيده حلال، ويحتمل أنه أمسك لنفسه، فصيده حرام، فقال: (إن أكل فلا تأكل).
فإذا أكل وجلس على الفريسة يأكل منها فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه أمسك لنفسه، لكن إذا أكل منها، ثم جاءك بفضلته فحينئذ يحتمل أن يكون صاد لنفسه، ثم من باب الوفاء جاء لسيده بالباقي، أو أنه صاد لسيده، فلما ذاق حلاوة اللحم ولذة الفريسة نهش منها، كأنه يرى أن سيده لا يضربه ولا يؤذيه، فيحتمل أنه صاد لسيده فعلاً، لكن الكلب -أكرمكم الله تعالى- لا ينطق ولا يتكلم، وإنما يباح صيده إذا صاد لك، ويحرم إذا صاد لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فدل على أنه إذا لم يمسك لك لا يجوز لك الأكل؛ لأن كلاب الصيد والجوارح، كالصقور، والبوازي، والشواهين والنسور ونحوها، يصح صيدها إذا لم تأكل، أما لو أكلت فلا، فالصقر -مثلاً- إذا أرسلته وأكل من الفريسة فحينئذ لا يؤكل منها؛ لأنه اختلط الحلال بالحرام، فهناك موجب يقتضي الحل، وهو كونك أنت الذي أرسلت، وذكرت اسم الله تعالى، وأنت الذي حددت الفريسة، وهناك موجب يقتضي الحرمة؛ لأن شرط حل صيدها أن لا يأكل، فلما أكل اشتبه أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك، فإذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل.
ولذلك نقول: القاعدة أنه إذا اجتمع حاظرٌ ومبيح، قدم الحاظر على المبيح، والسبب في هذا أن الحاظر والحرام أمرك الله تعالى باجتنابه، والحلال لم يأمرك الله تعالى بأخذه، فحينئذ تعارض الأمر مع ما هو دونه، فقال العلماء: إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
ومن هنا قالوا: إذا اشتبهت ميتة بمذكاة حرمتا، وإذا اشتبهت زوجة بأجنبية حرمتا، فلو كان هناك امرأتان متشابهتان تماماً وكانت إحداهما زوجة لإنسان، فجاء ودخل فوجد امرأتين كلتيهما شبه لزوجته، لا يدري هذه زوجته أو هذه، وقد يقع هذا في بعض الأحيان كما كان يقع في القديم في سفر القوافل، فقد كان يقع بعض اللبس، فإذا لم يتحرَّ ولم يتأكد أنها زوجته لم يجز له أن يقدم على غرة؛ لأنه ربما وطئ في حرام، والله تعالى أمره باجتناب الحرام.
إذاً: اجتمع الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
وهنا إذا اشتبه ماله الذي اشتراه، وهو ملك للمشتري والمال الذي حدث في ملك المشتري وجب ترك الكل، وتصحيح العقد ما أمكن.
قوله: [أو عرية فأثمرت]: العرية: من العرايا، سميت بذلك لأنها تعرى من البستان.
والعرايا: أن يباع الرطب على رءوس النخل بخرصه تمراً، وليس الرطب بمجني؛ إذ المجني لا يباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر، لكن يباع على رءوس النخل.
فلو فرضنا أن رجلاً عنده تمر سكري، لكنه أحب أن يأكل بدلاً منه رطباً، ففي الأصل لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم وجود التماثل، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا بخرصها تمراً، في قدر خمسة أوسق، كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كانت العرية في خمسة أوسق فما دون صح، أي: أن يؤخذ منه ثلاثمائة صاع؛ لأن الوسق ستون صاعاً، فيبيع نخلاً عرايا في حدود ثلاثمائة صاع، فإذا نقص عن ذلك جاز، ولو زاد لم يجز.
فلو فرضنا أن النخلة فيها عشرون صاعاً، فخرصها الخارص وقال: هذا الرطب إذا صار تمراً يصير عشرين صاعاً، فقلت له: إذاً أعطيك عشرين صاعاً من التمر الذي في الأرض بهذه العريا التي فيها عشرون صاعاً، واتفقتما ع