Q يجد بعض طلاب العلم في أبواب المعاملات عامة وفي مسائل البيوع كصفة خاصة بعض الصعوبة وعدم الفهم لهذه المسائل والأبواب، فما هو الطريق الصحيح الذي يسلكه طالب العلم لكي يستطيع أن يفهم ويدرك ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
صلى الله عليه وسلم أولاً: ينبغي أن يعلم أن الله تعالى فضل العلم وشرفه وأعلى مقامه ومقام أهله، وأثنى عليهم في كتابه، وإذا كان العلم صعباً ويحتاج إلى عناء فاعلم أن الرحمة فيه أكثر، وأن الأجر فيه أعظم، وأن البلاء فيه يعلي درجة العبد أكثر من غيره.
فإتقان المسائل المستعصية والصعبة يعلي الله عز وجل به قدر صاحبه، وهذه هي سنة الله، فإن الله تعالى إذا علم الإنسان وفتح عليه وتعب في تحصيل العلم، سيأتي اليوم الذي يجد فيه ثمرة ما تعلم، فيجد بلاءه في هذه المسائل المستعصية الدقيقة أعظم من المسائل السهلة، ويجد من نفع الناس وعظيم الخير الذي يترتب على هذه المسائل التي ضبطها ما لم يجده في واضح المسائل.
نعم، إن مسائل المعاملات صعبة، وأصعب من ذلك أن يتركها طلاب العلم، حتى تصبح منسية ولا تدرى أحكامها، فيقع الناس في الحرام وهم لا يعلمون، فهذا من الجهاد في طاعة الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
فمن جهاد طالب العلم صبره على المسائل الصعبة، ومن سنن الله تعالى أن يبتلي طالب العلم في بعض الأحيان بالسآمة والملل مما يجد من صعوبة المسائل، لكن إذا فتح الله عليه بطمأنينة الصدر، وأحس بفضل هذا العلم وحاجة الناس إليه، وقال: أصبر وأحتسب والله يعين، فتح الله له من أبواب رحمته ما لم يخطر له على بال.
وإني والله أقولها وأشهد أن من تعب في هذا العلم فإنه سيجد من أثره وبركته ما لم يخطر له على بال، ولكل زمان رجال، وقد تأتي في بلدة أو قرية أو منطقة بل وفي مدينة لا يتقن هذا الباب غيرك، فتصبح الوحيد الذي تقام به حجة الله على عباده في ذلك المكان.
وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، أن يأتي طالب العلم فيقرأ باب الفرائض، ومسائل المواريث، ويأتي إلى القرية فيصبح هو الوحيد الذي يرجع إليه، فينال من دعوات الناس، وصالح ذكره، وجميل ذكرهم، ما يكون له به عاجل الخير في الدنيا، وما ينتظره عند الله أعظم وأجل.
لا تسأم من العلم ولا تمله، بل أحب كل كلمة وجملة فيه، تحبها لله وفي الله، وابتغاء مرضات الله، وتحس أنك قد غفلت وفاتك، فإن التاجر الآن إذا جاء موسم التجارة عمل وكدح وتعب، ثم جاءه تاجر مثله وقد ربح أكثر من ربحه، وقال له: أين أنت عن التجارة الفلانية؟ تقطع قلبه حسرة على متاع الدنيا الزائلة الفانية، ولربما مرض لما يجد من الغبن والحرقة في نفسه أنها فاتته هذه الصفقة، فلا إله إلا الله ما أعظم صفقة الآخرة! وما أعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى! ولذلك وصف الله يوم الآخرة بيوم التغابن، حتى أصحاب الخير يغبنون بما فاتهم من الخير، فمن كان ملتزماً مسجده وعبادته غُبن أنه لم يكن من أهل العلم، الذين تعدى خيرهم إلى الغير، وانتفعت بهم الأمة، مما يرى من مثاقيل الحسنات وعظيم الدرجات التي أعدها الله لصالح المؤمنين والمؤمنات الذين تعبوا في تحصيل هذا العلم.
فأقول هذا الكلمة شحذاً للهمم، فالإنسان يشحذ همته للخير، واعلموا أنكم تعاملون الله، لا تتعلم هذا العلم لكي يقال: فلان عالم، أو فلان يضبط، أو فلان فقيه، ولكن لكي تعذر إلى الله أولاً بتعلمك وضبط هذا العلم، فتتقي ما حرم الله، وتفعل ما أحل الله لك، ثم تعلم غيرك، إن فعلت ذلك عظم أجرك.
قال بعض العلماء: عجبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي جر غصن الشوكة عن طريق المسلمين: (مر على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم)، وفي رواية: (فغفر الله له ذنوبه).
قال بعض العلماء: إذا نظرنا إلى الجهد في سحب غصن الشوك وجدناه جهداً يسيراً، قالوا: لكنه لما انطوى على نية الخير للمسلمين، فقال: أزحزح هذا الغصن عن طريق الناس لا يؤذيهم بالشوك، فكيف بمن تعلم مسائل الربا لكي يزحزح الناس عن نار جهنم؟ فهذا أجر من يزحزح غصن شوك من طريق المسلمين، فكيف بمن يتعلم هذه المسائل لكي ينقذ الأمة الحائرة الجاهلة ويعلمها ويوجهها؟ أرجو من الله أن يكون له الخير، بل حتى لو نوى بقلبه ولم يتم هذه المسائل، فإن المعامل كريم، الله الله أن يحتسب طالب العلم ويصبر، كم سهرنا من الليالي مع الأصحاب والأحباب! وكم لقينا من المشقات ونحن ننتظر تجارة من الدنيا، وننتظر أمراً من مباحات الدنيا، أو نبني منزلاً! كم سهرنا من الليالي في بناء المنازل! وكم وكم! ولا نسهر ولا نتعب على قال الله وقال رسوله، هذا العلم الذي قل من يطلبه ويبحث عنه.
فلا تمل ولا وتسأم ولا تضجر، وإن وجدتها صعبة فقل: أصعب منها أن أولي ظهري لهذا العلم، وأصعب منها أن أتقاعس؛ لا بل تتعب، فإن كنت ضعيفاً في الحفظ فإن الله يفتح لك من أبواب رحمته، وكرر فربما كان طالب العلم ضعيف الحفظ، لأن الله يريد منه أن يكرر المرة تلو المرة، تلو المرة فيسطر في صحيفة عمله من الحسنات ما لم يخطر له على بال.
قد يحفظ الحافظ في مرة واحدة، لكن أنت تجلس عشرين مرة أو ثلاثين مرة لكي تكتب لك ألوف الحسنات ومثاقيل الحسنات، ورب ضارة نافعة، لكن متى؟ إذا تعبت وجديت وكدحت، فإياك أن تجعل بينك وبين الخير حاجزاً، وصاحب الهمة الصادقة لا يبالي بالتعب؛ لأن هذا في مرضات الله تعالى ورضوانه.