قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع الدين بالدين].
قوله: (ولا يجوز) هذه من صيغ التحريم، (لا يحل -لا يجوز- يحرم) كلها من صيغ التحريم، ومن أقوى الصيغ: (لا يحل) فهي تدل على التحريم، كما قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، فنفي الحل عن الشيء يدل على تحريمه، وقوله: (لا يجوز) كذلك يدل على تحريمه.
وقوله: (بيع الدين بالدين)، الدين المؤجل يقابل النقد المعجل، والمراد بهذا أن تبيع ديناً في مقابل دين، ولا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: حكم هذه المسألة مستفاد من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وقال: هو على شرط مسلم، ولكن تعقب بأن فيه من تكلم في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله عن بعض رواته: إنه لا تحل روايته.
والعمل عند طائفة من العلماء على تضعيفه، لكن متنه صحيح، حتى إن الإمام أحمد لما ضعفه قال: إجماع الناس عليه، أي: الإجماع قائم على عدم جواز بيع الدين بالدين؛ لأن متن هذا الحديث يوافق الأحاديث الصحيحة؛ لأن بيع الدين بالدين يفضي إلى الربا والغرر والمخاطرة، فيدخل ضمن أصول عامة دلت الشريعة على اعتبارها، وقد أجمع العلماء والسلف رحمهم الله على العمل بهذا الحديث.
وممن حكى الإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين الإمام أحمد رحمه الله، وابن قدامة، وابن المنذر، وابن رشد وغيرهم.
ويبقى النظر: ما هي صور بيع الدين بالدين؟ نقول: لبيع الدين بالدين صور: فتارة بأن تبيع ديناً بدين على الشخص المدين نفسه، فيحصل بيع الدين بالدين بين المتعاقدين بأن يكررا البيع، فيكون من باب بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه.
وتارة يكون بيع الدين بالدين مع شخص غير الشخص المدين الأول.
فأما بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه فلا يخلو: إما مع اتفاق جنس الدين الأول، أو اختلافه.
مثال ذلك: جاء رجل واستدان منك ألف ريال، ثم لما حضر التقاضي قال لك: هذه الألف ريال أعطيك في مقابلها مائة صاع من بر إلى نهاية العام، فالأول دين، والثاني دين، وقد باع الألف ريال في مقابل المائة صاع، فهو دين بدين.
مثال آخر: كأن يقول: هذه المائة صاع أشتريها منك بألف ريال، أو بألف ومائتين، فحينئذٍ باع الثمن (الدين) الذي كان في الثمن الأول ببيع ثانٍ جديد، فالذي خاطب وتبايع معك هو نفس الذي وقع عليه الدين الأول، فوقعت صورة بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، فالعقد الثاني والبيع الثاني هو نفسه الذي وقع فيه الدين في البيع الأول.
فهذه الصورة -وهي اتحاد المتعاقدين- تارة تكون بالثمن في مقابل الثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل المثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل الثمن، فهذه ثلاث صور.
الصورة الأولى: أن تكون من بيع الثمن بالثمن: وهذا أشهر ما يقع فيه ربا الجاهلية، زد وتأجل، فيكون للشخص على الشخص عشرة آلاف ريال، فإذا حضر وقت المطالبة قال له صاحب الدين: أأخرك عن هذا الدين باثني عشر ألفاً، أي: بزيادة ألفين، فكأنه باعه العشرة آلاف الأولى باثني عشر ألفاً الثانية.
أو يقول الذي عليه الدين لصاحب الدين: أنا أشتري منك هذه العشرة آلاف بمائة دولار أو بمائتين إلى بعد نصف سنة أو سنة أو شهر أو شهرين، فبادله النقد بالنقد نسيئة من الطرفين، وحينئذٍ يكون من بيع الدين بالدين المفضي إلى الربا.
كذلك أيضاً -وخاصة إذا كان في الأثمان والنقود-: غالباً ما تقع الصورة ربوية مع اتحاد المتعاقدين، فتكون العلة فيها من أقوى ما تكون مفضية إلى الربا.
إذاً: بيع الدين بالدين (ثمن بثمن) يقع بصورة الربا غالباً، إلا أنه يستثنى من هذا لو قال له: هذه العشرة آلاف لا أستطيع أن أسددها، فقال: أسقط عنك مائة منها وأعطيك أجلاً زائداً، فحينئذٍ هذا دينه، فالأمر خفيف، لم يقع فيه؛ لأن العشرة هي العشرة، ولم يقع بيعاً ثانياً.
فهناك فرق بين مسألة الإسقاط والمسامحة وبين مسألة المعاوضة، فإن المدين في الصورة الأولى يقول: هذه العشرة آلاف أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف وخمسمائة، أو أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف ومائة، بشرط أن تصبر عليّ شهراً وأعطيك مائة فوق العشرة آلاف، فأصبحت عشرة آلاف ومائة، فصار ديناً بدين.
هذه هي الصورة الأولى، وهي أن يكون ثمناً بثمن.
الصورة الثانية: أن يكون مثمناً بمثمن، ويقع هذا في صور عديدة، منها: بيع السلم، كأن يأخذ منك ألف ريال معجلة مقابل مائة صاع مؤجلة، مع ملاحظة أن المائة صاع مثمن، فلما حضر أجل السلم قال: ليس عندي مائة صاع، فسأعطيك بدلاً عنها مائة وعشرة، فهو مثمن بمثمن، وهو عين الربا، وهذا مع الاتحاد.
وقد يختلفان إلى ربوي، فيقول له: أعطيك عن المائة صاع البر مائة وعشرين من التمر، أو أعطيك مائة من التمر، فصار ربوياً بربوي بدون قصد، فتدخل شبهة الربا، فحرم بيع الدين بالدين لوجود شبهة الربا، مع ما فيها من المخاطرة في الديون.
الصورة الثالثة: الثمن بالمثمن، قالوا: يقع بيع الدين بالدين (الثمن بالمثمن) إذا كان قد أعطاه ديناً عشرة آلاف ريال إلى نهاية السنة، فلما حضر الأجل، قال: أعطني العشرة آلاف، فقال: سأعطيك بدلاً عنها مائة صاع، من البر إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية السنة، فعاوضة عن الثمن -الذي هو العشرة آلاف- بمثمن إلى نهاية السنة، أو هذه العشرة آلاف التي لك عليّ أعطيك بدلاً عنها سيارة في نهاية السنة من نوع كذا وصفة كذا، فعاوضه بالمثمن لقاء الثمن، فصارت البيعة الثانية ديناً في مقابل دينه الأول، فصار من بيع الدين بالدين.
وعلى هذا وقع بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، كما في الصور التي ذكرناها في الثمن مقابل ثمن، ومثمن مقابل مثمن، وثمن مقابل مثمن.
وقد يقع بيع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين، وهنا قد تقع علة الربا، وقد يقع بيع الغرر، فيكون فيها نوع من المخاطرة، ومن هنا قال بعض العلماء: الأشبه بأن بيع الدين بالدين يدخل فيه علل كثيرة، فتارة يكون من ربح ما لم يضمن، وتارة يكون من بيع الغرر، وتارة يكون من الربا.
فأصبح مشتملاً على المفاسد الموجبة لتحريم البيع؛ لأن قواعد تحريم البيع كما ذكرها ابن رشد وغيره والتي من أجلها حرم البيع: إما تحريم عين المبيع، وإما الربا، وإما الغرر، وإما الشروط التي تئول إلى الربا أو إلى الغرر أو هما معاً.
وبناءً على ذلك قالوا: إذا باع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين: فتارة يكون من الربا، وتارة يكون من الغرر، وتارة يكون من ربح ما لم يضمن، فإذا قال زيد من الناس: لي على عمرو عشرة آلاف، فقال له: يا فلان، دينك الذي على زيد -وهو عشرة آلاف- سأعطيك بدلاً عنه اثني عشر ألفاً إلى نهاية السنة، وأنا آخذ من زيد وفاء الدين.
فحينئذٍ عاوضه ديناً بدين، فالاثنا عشر التي سيدفعها له سيدفعها بعقد دين؛ لأنه قال له: إلى نهاية السنة في مقابل العشرة آلاف التي يريد أن يأخذها من زيد، وهذه دين، فصار من بيع الدين بالدين رباً؛ لأنه اشتمل على التفاضل والنسيئة، فالعشرة آلاف باثني عشر ألفاً تفاضل، والعشرة آلاف ريال باثني عشر ألف ريال ربوي من جنسه نسيئة، فاجتمعت فيه علة الربا من جهتين.
وتارة يكون من باب الربا الموجب للنسيئة، كأن يشتري رجل من رجل مائة صاع -كما في الثمن- إلى نهاية السنة، وقبل نهاية السنة يبيع المائة صاع بمائة من البر، فيقول المشتري الجديد: أنا أشتري منك المائة صاع سلماً لفلان من التمر، وأعطيك بدلاً عنها مائة صاع من البر، فالتمر مع البر كل منهما ربوي، ولكن وقع البيع نسيئة من الطرفين: نسيئة من هذا، ونسيئة من هذا، فصار من بيع الدين بالدين الذي حرمه الله ورسوله، ولا يجوز، وهذا يكون من المثمن بالمثمن.
وكذلك قالوا: إنه يقع في الثمن بالمثمن، فلو قال له: هذه المائة ألف التي لك دين على فلان أعطيك بدلاً عنها سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية هذا الشهر، ويكون الدين الأول حالاً في منتصف الشهر، فصار بيع الدين الأول -الذي هو العشرة آلاف والمائة ألف- بالسيارة الثانية، فالأول دين والثاني دين، وكلها من بيوع الغرر، أو المخاطرة، أو الآيلة إلى الربا، أو الجامعة بين الربا وبين الغرر.
الخلاصة: أن بيع الدين بالدين لا يجوز، ومن هنا اختار العلماء وجوب التقابض فيما يشترط فيه التقابض، فإن دخل في بيع الدين بالدين؛ انضافت علة الربا إلى بيع الدين بالدين مع علة الغرر والمخاطرة.