قال رحمه الله: [أو كثيراً نجِساً غيرَهما] أي: غير البول والغائط، وهو الدم مثلاً.
وقوله: (كثيراً نجساً) يشمل أموراً: أولها: الدم.
ثانيها: الصديد.
ثالثها: القيح.
رابعها: القيء.
كل ذلك يعتبر من النجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول والغائط.
فمن قاء فقد انتقض وضوءه -على هذا الأصل-؛ لأنه نجس خارج من البدن.
ومن رعف انتقض وضوءه؛ لأن الدم نجس، فيوجب انتقاض الوضوء.
ومن خرج منه الصديد أو القيح انتقض وضوءه؛ لأن الصديد والقيح، متولد من الدم، والفرع يأخذ حكم أصله، وما تولد من نجس فهو نجس، والصديد: يقولون: من الماء الذي يخالط الجراح، وقيل: يكون مختلطاً بين الدم والماء الذي يخالط الجراح، فقالوا: أخذ حكم النجس لمكان تنجسه بالموضع.
هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء، على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء.
وقلنا: إن الصحيح: أن الخارج النجس من غير السبيلين لا يُعتبر ناقضاً للوضوء.
لكن هنا شرط ذكره المصنف عبَّر عنه بالوصف في قوله: (كثيراً)، فمفهوم قوله: (كثيراً) أنه لو كان قليلاً فلا ينقض الوضوء.
تفصيل ذلك: قالوا: إذا خرج من الإنسان دم يسير كالبثرة التي تسمى في عرف الناس بـ: الحَبَّة، تكون على الإصبع أو تكون على الساعد، فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها الإنسان فيخرج منها الدم اليسير، فهذا يسير.
ومن أمثلته أيضاً: لو استاك فأدمى لثته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، فهذا قليل.
أو جُرِح جرحاً صغيراً، وخرج دم يسير، فهذا يوصف بكونه قليلاً.
لكن لو كان كثيراً، كجرحٍ يَثْعُبُ دماً، أو رعف، فإنهم يقولون: انتقض وضوءه.
إذاً: هم يفرقون بين القليل والكثير من النجاسات الخارجة.
ويقولون: لو كان الخارج النجس كثيراً نقض، وإذا كان الخارج النجس قليلاً لم ينقض، فيرد
Q ما هو الضابط الذي نفرِّق به بين القليل والكثير؟ لهم أقوال متعددة: منها ما اختاره غير واحد ومنهم: الإمام الموفق ابن قدامة كما في المغني، واختاره في العمدة، وكذلك اختاره الزركشي، وغيرهم من أئمة الحنابلة وفقهائهم -رحمة الله عليهم- يقولون: إن الكثير ما لا يتفاحش في النفس، فإذا رأيته لم تره كثيراً، ولا تستكثر هذا اليسير؛ لكن لو أنك نظرت إليه فاعتبرته كثيراً، فإنه يعتبر كثيراً.
لكن نقول لهم: الناس يختلفون، فقد يكون الكثير عندي يسيراً عندك! قالوا: ما اعتبره أوساط الناس وعقلاؤهم ونحوهم من الحكماء الذين لهم عقل، قالوا: فيخرج الموسوس، والقصاب.
أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده يعتبر كثيراً -نسأل الله السلامة والعافية- ويستعظم كل شيء، فهذا القليل عنده لا يعتبر فاحشاً، ومِثْلِه ليس له تأثير.
وأما النوع الثاني: فالجزار أو القصاب فإنه لا عبرة بقوله؛ لأنه يستهين بالدماء، فالذي يتفاحش عنده الشيء الكثير جداً، فربما يرى ما يملأ الكوب، فيقول: هذا ليس من المتفاحش وإنما يقاربه؛ لأنه معتاد للدماء.
فقالوا: يخرج هذان النوعان: القصاب، والموسوس، فجعلوا أعلى الشيء: القصاب، وأدناه: الموسوس، قالوا: فلا نلتفت لمن يعظِّم الأمر ولمن يحقِّره، وإنما يُنظر إلى الحكيم العاقل وعقلاء الناس وأوساطهم.
ومنهم من يحدُّه بالقطرة والقطرتين.
لكن كل هذا -كما قلنا- على غير المشهور، والذي اختاره بعض المحققين: أن العبرة فيه بتفاحش النفس، فقالوا: إذا كان الدم كثيراً عندك نقض، وأما إذا كان يسيراً لم ينقض.
كل هذا نحن في عافية منه؛ لأنه عندنا لا ينقض الوضوء؛ وإنما نحن نفرِّع على كلام المصنف، ويرد السؤال: لماذا استثنوا القليل؟ استثنوه لعلة، وهي: أنه ثبت عن الصحابة أنهم عصروا البُثَر، وأنهم اغتفروا اليسير، كما جاء عن ابن عباس وابن عمر، فقد عصر ابن عمر بثرةً ثم صلى ولم يرَ في ذلك بأساً، قالوا: فهذا يدل على أن القليل لا يؤثر، وبناءً على ذلك قالوا: نستثني اليسير، فإن كان يسيراً لم ينقض، ولم يُحكم بانتقاض الوضوء.