أما مسألة الأجناس فما كان جنساً واحداً متفق النوع؛ كالذهب -واتفاق نوعه كأن يكون عيار أربعة وعشرين بعيار أربعة وعشرين، واختلافه كعيار أربعة وعشرين بعيار واحد وعشرين- فهذا يجري فيه الربا على العموم، سواءً اتفق نوع الذهب أو اختلف.
فهذا الضابط يكون فيه الجنس واحداً والنوع مختلفاً، فإذا كان من الأثمان، كالذهب والفضة، فقد يكون الذهب من عيارات مختلفة، وقد يكون حلياً بجنيهات، أو يكون هذا نقداً وهذا حلياً، فالنوعية لا تؤثر، بل ما دام أنه من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا عموماً.
والدليل على أنه إذا كان من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، ولذلك نجد العلماء رحمهم الله يقولون: (تبرها ومصوغها)، أي: أن الذهب يجري فيه الربا سواءً كان تبراً بتبر، أو مصوغاً بمصوغ، أو كان تبراً بمصوغ.
والفضة كذلك، ويدخل في حكمها ريال الورق؛ لأنه سند عن أصل من الفضة، فإذا بودلت الفضة بفضة وجب التماثل والتقابض، سواءً كانت ريالات أو حلياً، فتخات أو خواتيم أو أسورة من فضة، فإنه يجب التماثل والتقابض.
إذاً: هنا جنس واحد مشتمل على أنواع يجري فيها الربا، وهي من المنصوص عليها، وهذا بالنسبة للذهب والفضة.
أما بالنسبة للطعام فنفس الحكم، فمثلاً: التمر، منه العجوة والسكري والحلوى الربيعة والند، وأنواع كثيرة، فهل نقول: الحلوى الربيعة بالربيعة يجري فيها الربا، وإن اختلف النوع لا يجري؟ نقول: لا.
بل جميع التمر يجري فيه الربا، سواءً اتفق النوع كبرحي ببرحي، أو سكري بسكري، أو ربيعة بربيعة، أو عجوة بعجوة، أو صفاوي بصفاوي، أو صيحاني بصيحاني فكله يجري فيه الربا سواءً اتحد النوع أو اختلف.
وبناءً على ذلك: لو باع تمر السكري بالند وجب أن يكونا متماثلين؛ كصاع بصاع ومد بمد، ولم يجز التفاضل، بأن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وهذا بالنسبة لما اتحد جنسه واختلف نوعه.
أما إذا كان الجنس واحداً ولكن الأصل مختلف، فمثلاً: في النوع الأول الجنس تمر، والاختلاف في النوع، فعاد إلى أصل واحد، فإن التمور تعود إلى أصل واحد، فيجري فيها الربا؛ سواءً اتفقت أنواعها أو اختلفت، لكن لو كانت الأصول مختلفة والجنس واحد، مثل الأدقة والأجبان، فإن الدقيق عندنا مستخلص من البر، يقال: دقيق البر، دقيق الشعير، دقيق الدخن، فهو جنس دقيق، أي: يقال له: دقيق؛ لكنه في الأصل مختلف، بخلاف الأول، فإن التمر في الأصل واحد، ولكنه لما عاد إلى أصل واحد أخذ حكم العين الواحدة، لكن هنا إذا كان دقيق بر بدقيق شعير، فالجنس مختلف، فيجوز فيه التفاضل، لكن يجب أن يكون يداً بيد.
ومن هنا بين المصنف قاعدة وهي: (وفروع الأجناس أجناس)، فبعد أن بيّن مسألة اتحاد الجنس واختلاف النوع، واتحاد الجنس والنوع؛ شرع في اتحاد الجنس واختلاف الأصل، وعلى هذا فلو صنع خبزاً من شعير، وخبزاً من بر، فتقول: الجنس واحد وهو الخبز، ولكن الأصل مختلف، فأصل البر ليس كالشعير على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، خلافاً للمالكية، فيجوز أن يبيعها متفاضلة، ولكن يداً بيد، لكن لو أن الخبز كان أصله واحداً كخبز الشعير، فحينئذٍ لابد من التماثل والتقابض.
إذاً.
الجنس متحد النوع يجري فيه الربا إذا كان من الأعيان المنصوص عليها أو المقيس عليها، أما ما كان جنساً واحداً ومختلف النوع كالتمر بأنواعه، فإننا نقول: يجري فيه الربا ويعتبر كالأصل الواحد، فلا يجوز بيع بعضه ببعض، حتى قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في هذا، أي: فيما إذا بادلت تمراً من نوع بتمر من نوع أنه يجري فيه الربا؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، فإن قال قائل: أثبت لي أن هذا الدليل عام؟ فنقول: نثبت ذلك من أوجه: الوجه الأول: اللفظ؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب)، ولم يفرق بين الذهب النقدي الذي هو جنيهات ودنانير في القديم، ولا بين الذهب الذي لم يضرب كالتبر أو الخام، ولم يفرق بين الحليّ، إنما قال: (الذهب) فشمل الذهب بالذهب مطلقاً، سواءً كان متماثلاً كحلي بحلي، أو كان مختلفاً كدنانير بحلي، بل لابد من التماثل.
وهنا مسألة تتفرع على هذا الأصل وهي: لو أن تاجراً يتعامل في الذهب جاء وقال: إني أبيع الذهب المصوغ، والذهب إذا صنع حلياً فإنه يكلف ويحتاج إلى إجارة وعمالة، وهذا يستلزم أن يكون أغلى وأكثر مئونة وعناءً من الخام الذي لم يصنع.
ومن باب الفائدة: فإن الذهب يحتاج إلى شيء يقويه؛ لأن مادته ضعيفة ومعدنه ضعيف، ولذلك فإن السبيكة إذا قيل: إنها ألف غرام، فمعناه: أن تسعمائة وتسعة وتسعين وكسراً من الذهب، لكنّ فيها شوباً يقويها وهو النحاس، ولذلك اغتفر وجود النحاس، وقد حكى ابن رشد في بداية المجتهد الإجماع على اغتفاره.
لكن لو أن رجلاً عنده ذهب من السبائك، وأراد أن يبادلها بذهب مصوغ كالحلي والقلائد، فقال التاجر: أعطيك هذا الذهب الذي صنعته وتعبت عليه بهذا الذهب غير المصنوع، وأقدّر التعب الذي تعبته، فإن كان الذهب المصوغ مائة غرام، فإن تعبي يكلف عشرة غرامات، فأشتري منك مائة وعشرة من السبائك بمائة مصوغة، وأستفضل بقدر التعب.
هذا من ناحية عقلية نجد له مبرراً، وذلك مثل التمر الجيد بالتمر الرديء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ذلك؛ لعموم قوله: (الذهب بالذهب).
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا نفس هذا الفهم، فقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان في المسجد وجاءه رجل صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أصنع الذهب وأشتري به ذهباً وأستفضل قدر الصنعة -يعني: قدر تعبي- فهل يحل لي؟ قال: لا.
إلا مثلاً بمثل.
فأعاد عليه الرجل مرة ثانية؛ لأنه من ناحية عقلية قد لا يتصور ذلك، فقال: لا.
فما زال مع عبد الله بن عمر حتى خرج من المسجد، وأخذ ابن عمر بخطام دابته وركب عليها، فأعاد له الرجل مرة ثالثة، فقال له: (عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا الذهب بالذهب، مثلاً بمثل)، فاستدل ابن عمر بالعموم.
ولما كان معاوية رضي الله عنه في غزوة فغنم غنيمة، فأجاز للناس أن يبيعوا الأواني المتفاضلة لقاء الصنعة، فقام له أبو أسيد، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب) وذكر الحديث، وقام أبو الدرداء وأنكر عليه، ولما بلغ عمر فعله كتب إلى معاوية ينهاه ويأمره بالرجوع إلى قول أبي أسيد وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
إذاً: فهم الصحابة على أن الذهب بالذهب عموماً لا يكون إلا مثلاً بمثل، فما هي الحيلة لو قال لك التاجر: أنا لا يمكن أن أبيع الذهب بالذهب مثلاً بمثل؛ لأنني أتعب على هذا المصوغ؟ فقل له: بعه بالريالات التي هي الفضة، وبعد ذلك ساوم معه بما شئت من الفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به جنيباً).
إذاً: من حيث الأصل بينّا مسألة اتحاد الجنس مع اتحاد النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف الأصل، ومن أمثلتها: الأدقة والأجبان.
فإن الجبن إذا كان هناك جبن يتخذ من حليب الغنم، وجبن يتخذ من حليب البقر، فإن الجنس واحد وهي أجبان، لكن نقول: أصل الجبن الذي من الغنم غير أصل الجبن الذي من البقر، وكذلك اللحم، فلحم الغنم ليس كلحم الإبل وليس كلحم البقر، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً على أصح قولي العلماء، كما درج عليه المصنف.
أما المالكية فيقولون: تنقسم اللحوم إلى ثلاثة أقسام: لحوم بهيمة الأنعام، ولحوم الطير، ولحوم الأسماك، فيجعلون بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كلها واحدة، فلا يجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
ولكن الصحيح أنها متفاوتة، وأنه يجوز أن تبيع لحم الغنم بلحم الإبل متفاضلاً، ولحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون يداً بيد.
ومن يتأمل كلام العلماء يعجب من إعانة الله لهم وتوفيقه لهم على الفهم، فإنك إذا نظرت كلام المصنف وترتيبه للمسائل تجد أولاً أنه قرر القاعدة المستفادة من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهي: النهي عن بيع الربوي بالربوي متفاضلاً إذا اتحد الصنف، ثم بعد ذلك قرر العلة في مسألة التمر بالتمر مع اختلاف النوع لما بيّن مسألة الجنس وقال: (الجنس ما له اسم خاص)، فقررها من الحديث وانتزعها من عموم الحديث، ثم بعد ذلك شرع في مسألة متفرعة على مسألتين.
ولو قال قائل: إن الحديث أمرنا أن نعطي الصاع بالصاع من البر، وأن نعطي الصاع بالصاع من التمر، فسأعطي صاعاً بصاع من البر، ولكن أحدهما دقيق والثاني حب، فانظروا كيف أن العلماء رحمهم الله يضعون الأفكار مرتبة بعضها على بعض؛ لأن الحديث أمر بالصاع تجاه الصاع.
فعندنا منصوص، وعندنا مفهوم من النص، فلما كان منطوق النص التماثل، وهو بيع الصاع بالصاع، فينبغي أن يكون المعنى موجوداً، فلا يكفي أن تقف عند كلمة الصاع بالصاع، فإذا أعطاه حباً بدقيق فهو صاع بصاع، لكن في الحقيقة الدقيق أكثر من الحب، وإذا جئت تنظر إلى أجرام الحب مع أجرامها تحدث الفراغ في الصاع، لكن الدقيق مع الدقيق يملأ الفراغ.
ومن هنا فرّع العلماء رحمهم الله هذه المسألة على معنى الحديث، وجعلوا هذا تابعاً للأصل، وهو أن الصاع بالصاع يأتي باللفظ ويأتي بالمعنى، فاللفظ أن يتماثلا كصاع بصاع، لكن تكون الحقيقة والمعنى موجوداً، وهو مقصود الشرع أن يكون هناك عدل.
فإذا كان أحدهما مطحوناً والآخر غير مطحون، أو كان أحدهما مطبوخاً والآخر غير مطبوخ لم يجر التماثل المقصود وإن قال لك: هذا صاع بصاع.
وهكذا لو باع التمر بلا نوى بتمر فيه نوى، أو التمر الذي فيه لوز بتمر لا لوز فيه، فهذا كله في الظاهر أن الصاع بصاع، لكن ف