قال رحمه الله: [والإقالة فسخ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]: (والإقالة) الإقالة أصلها الفسخ، أقال عثرة النادم، إذا لم يؤاخذه، بما جنى بعد ندمه.
وأما في الاصطلاح فهي: فسخ العقد بين الطرفين برضاهما.
وبعضهم يزيد: مع عدم ترتب الآثار، وهذا متكلف لأنه إذا فسخ لا تترتب عليه الآثار، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه.
وقلنا: "برضا الطرفين" لأن الإقالة تكون برضا الطرفين، ولا يمكن أن نقيل أحدهما حتى يرضى الآخر؛ لأن البيع عقد لازم، والعقود اللازمة كما أنها تلزم الطرفين، فلا بد أن يكون فسخها من الطرفين، أي: كما أنها لا تثبت إلا من الطرفين فينبغي ألا يكون فسخها إلا من الطرفين، وهذا من العدل الذي حكم الله عز وجل به وجعله بين عباده.
قوله: (تجوز) أي: تشرع، وعليه جماهير السلف والخلف.
والمراد بالإقالة أن يشتري منك شيئاً ثم يأتيك ويقول: لا أريد هذا الشيء، أو طرأت علي أمور، أو أرجوك أقلني، ويلتمس منك الإقالة، فأنت بالخيار بين أمرين: إما أن تلزمه، وتقول له: لا أقيلك وهذا من حقك؛ لأنه قد يكون فيه ضرر عليك، أو قد لا تقتنع بالكلام الذي يقوله، أو ترى من المصلحة أن تمضي البيع له، فإذا رأيت ذلك فهو لك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا كان هذا الأمر يدخل عليك ضرراً عظيماً، أو كنت متحملاً للمسئولية تجاه أناس، أو هذه الصفقة قد تترتب عليها حقوق لأناس، فتقول: لا أستطيع، فهذا لك: أن تلزمه بالعقد.
وإن شئت قبلت إقالته، وهذا أفضل بإجماع العلماء، لما فيه من الترغيب الشرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أقال نادماً، أقال الله عثرته، يوم القيامة) وهو حديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وفيه كلام، لكن متنه صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ثبت عنه في الحديث القدسي: (أن رجلاً كان يدين الناس ويقول لعامله: إذا وجدت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله عز وجل فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي) فهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك يقول العلماء: من شدد على الناس شدد الله عليه، ومن خفف عنهم خفف الله عنه.
فمن كان يعامل الناس بالتيسير يسر الله عليه، وانظر إلى التاجر تجد أنه إن كان سمحاً ميسراً وجدت أموره على السماحة واليسر، حتى أن الله يلطف به في النكبات والفجائع، وتجد من لطف الله عز وجل به ما لم يخطر على بال.
والعكس بالعكس، حتى ولو كان أميناً، لكنه يأخذ حقه كاملاً ويعطيه كاملاً، والرجل يريد أن يضع كل شيء في نصابه، لكن ترى الله سبحانه وتعالى يأخذه فكما يشدد على الناس يشدد الله عليه، فما يأتي الناس يأتيه.
فالذي يعامل الناس بالسماحة واليسر يدفع الله عنه، وهذا أمر جرت عليه الشواهد والأدلة، وسنن الله عز وجل ظاهرة عليه.
وعليه: قالوا: إنه يستحب أن يقيل النادم، لما فيه من تفريج كربة المسلم، وخاصة إذا كانت عنده ظروف وكان فيه مشقة عظيمة عليه، فالإيثار محمود، خذ حتى ولو كان فيه ضرر عليك، فإن هذا البلاء الذي دخل عليك بهذا المسلم، لعل الله أن يدفع عنك به أبواب البلاء؛ لأنه ربما دفع الإنسان عن أخيه المسلم بلاء فيدفع الله عن ماله البلايا، فأجمع العلماء على استحباب الإقالة.
قوله: (تجوز قبل قبض المبيع) أي: تجوز الإقالة قبل قبض المبيع وبعد قبض المبيع، بمثل الثمن، فإذا اشترى منه داراً بمائة ألف، ثم جاءه وقال: أقلني بيعتي، فقال: أقلتك؛ رد له المائة ألف، ورد المشتري الدار إلى البائع، فهذا جائز ومشروع.
وهكذا بالنسبة لغير العقارات، كأن يشتري منه طعاماً بمائة ثم يأتي ويقول له: أقلني، فيقيله، فهذا جائز ومشروع.
وقوله: (بمثل الثمن) أي: فلا يجوز أن يستقيله بما هو أكثر، على أصح قولي العلماء وهو أن الإقالة فسخ.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإقالة على قولين.
وهناك قول ثالث وهو التفصيل، لكن المشهور قولان: القول الأول: أن الإقالة فسخ.
القول الثاني: أن الإقالة بيع جديد.
نمثل بمثال واحد حتى تتضح الصورة: لو اشتريت سيارة من رجل بعشرة آلاف ريال، ثم بدا لك أن ظروفك لا تساعدك في شراء هذه السيارة، وأن المصلحة أن ترد هذه السيارة، فجئت إليه، وقلت له: يا فلان! خذ سيارتك وأعطني العشرة آلاف، فإذا رددتها بنفس الثمن فحينئذٍ لا إشكال أنه فسخ بالمثل، وهذا إذا قلنا: إنها فسخ، فحينئذٍ تكون رددت له نفس المال الذي له.
وإن قلنا إنها بيع، فمعناه أنكما أنشأتما بيعاً جديدا، ً فيشترط فيه ما يشترط في البيع، من الافتراق عن المجلس فلو قال له: أقلتك، ثم قبل أن يفارقه قال: لا أريد أن أقيلك ورجع عن إقالته كان ذلك من حقه.
وأما إذا كانت فسخاً فإنه لا يجوز له ذلك.
وكذلك أيضاً لو قلنا: إن الإقالة بيع، فجاء وقال: أقلني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بل أقيلك بتسعة آلاف ريال، فمعناه أنه بيع جديد، فيجوز أن تقيل بالثمن، وبأقل من الثمن، ولا بأس بذلك ولا حرج على القول بأنها بيع.
والصحيح أنها فسخ، وإذا كانت فسخاً فلا تجوز إلا بنفس الثمن، وحينئذٍ يخير البائع بين أن يمضي الصفقة وبين أن يرد نفس الثمن إلى صاحبه؛ لأن الحق الذي عنده إما أن يمضي فيه الصفقة على ما هو مقرر بالنص الشرعي في العقد من الإيجاب والقبول المركب منهما، وإما أن يرد عليه المال كاملا، ً ولا ينقص منه شيئاً.
قال رحمه الله: [ولا خيار فيها ولا شفعة]: أي: أنها ليست ببيع وإنما هي فسخ.
وإن كانت بيعاً ففيها شفعة، فمثلاً: بعت أرضاً في مخطط، وهذه الأرض لك فيها النصف، حيث كنت أنت وصديق لك قد اشتركتما في الأرض له نصفها ولك نصفها، فباع صديقك الأرض على طرف ثان بمال، فهذا الطرف اشترى منه، فأصبح حينئذٍ شريكاً لك، فإذا استقال من صديقك فأقاله لم يصح لك أن تشفع؛ لأنها ليست بيعاً وإنما هي فسخ، وحينئذٍ يرجع الأمر إلى ما كان، وليس من حقك أن تقول: هذا بيع وأنا شريك، ومن حقي أن أشفع؛ وإذا قلنا: إنها بيع، كان من حقك أن تشفع، وحينئذٍ بدل أن تكون شريكاً بالنصف، فإنك تدخل شفيعاً بمثل المبلغ الذي باعه إياه وتخرج صديقك من الأرض كلية.
مثال: الأرض قيمتها مائة ألف، فعرضت للبيع، فاشترى محمد من شريكك بخمسين، فأصبح محمد شريكاً لك وأنت ساكت، ورضيت من محمد أن يكون شريكك، فاستقال محمد من البائع الذي هو الشريك الأول، فإن قلنا: إنها بيع، فمعنى ذلك أن محمداً الشريك الجديد سيبيع بيعة ثانية، والشريك من حقه أن يشفع في كل بيعة جديدة، حينما وقع البيع الأول ربما كان المشتري قريباً له فسكت، أو لم يكن آنذاك مال، لكن لما وقعت الإقالة كان عنده سيولة ومال، فقال: ما دام أنك أقلته، فهذا بيع وأريد أن آخذ حصة شريكي بثمنه وعليك تخرج من الأرض، فتبين أن فيها ضرراً، ومن هنا نقول: إن الإقالة في بعض الأحيان تدخل الضرر على الإنسان فلا يرضى بها.
وعليه يقول العلماء: إنه يجوز للشريك أن يشفع إن قلنا: إنها بيع، ولا يجوز له أن يشفع إن قلنا: إنها فسخ، والصحيح أنها فسخ.