قال رحمه الله: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن]: مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء رحمهم الله في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة رحمهم الله، فقد توسعوا في الخيار وذكروا صوره، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم كفقهاء الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع، وهنا نوع من الخيارات وهو خيار التخبير بالثمن.
وهو أن يأتي الإنسان إلى البائع يريد أن يشتري سلعة، فحينئذ لا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يقول لك مثلاً: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، أو أبيعك هذه العمارة بمائة ألف، ولا يذكر لك رأس المال الذي اشترى به، فحينئذٍ لا إشكال.
الحالة الثانية: أن يقول لك: هذه السيارة رأس مالي فيها مائة ألف، أو هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، فهذا الإخبار بالثمن فيه عهد من المسلم إلى المسلم ألا يكذب وألا يغش وألا يزور؛ لأنه إذا قال لك: رأس مالي في هذه العمارة مليون فمعنى ذلك: أنه إما أن يبيعك برأس المال وقد صدقته أنه اشترى بمليون، وإما أن يقول لك: كم تربحني؟ فتربحه العشر مثلاً، فيبيع بمليون ومائة، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أسقط عنك عشر رأس المال، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أدخلك شريكاً معي بالنصف.
فإذا أخبرك برأس المال، فإقدامك على السلعة مركب من علمك بهذا القدر وهذه القيمة، فلا يخلو: إما أن يكون صادقاً فلا إشكال، وإما أن يكون كاذباً، أو يكون مخطئاً، هذه ثلاثة أحوال: إما أن يكون صادقاً، فلا إشكال، على حسب ما اتفقتما عليه.
وإما أن يكون كاذباً فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمليون، كم تربحني فيها؟ فتقول له: أربحك النصف، فمعناه أنك ستشتريها بمليون ونصف.
فإذا شاء الله عز وجل أن دفعت له المليون والنصف، ثم تبين أنه اشتراها بنصف مليون، وأنه كذب عليك حينما أخبرك أنه اشتراها بالضعف، فيكون حكم الشرع بإعطائه قيمة ما أخذ من المغشوش بالنسبة، وسنبين هذا.
كذلك أيضاً لو قال لك: رأس مالي فيها مليون ريال، ادخل معي شريكاً بالنصف، فأعطيته نصف مليون وتبين أنه اشترى بنصف مليون، فحينئذٍ كان من حقك أن ترجع عليه بربع مليون؛ لأنك دخلت بالخمسمائة ألف على أن رأس المال مليون ريال، وتبين أن رأس المال خمسمائة ألف، فمعناه أنك تدخل معه شريكاً بمائتين وخمسين ألفاً، ومن حقك أن تسترد منه المائتين والخمسين ألفاً المتبقية.
لقد أبدع فقهاء الحنابلة رحمهم الله باعتبار هذا النوع من الخيارات وتكلموا عليه وفصلوا في أحكامه، وهذه ميزة من ميزات الفقه الحنبلي، وإن كان غيرهم نبه على هذه المسائل؛ لكن لماذا دخلت هذه المسألة في الخيار؟ قالوا: لأنه إذا ظهر كذبه، فقد صار للمشتري الحق في أن يطالب بضمان ما خدع به، ومن حقه أن تغفر.
إذاً: كأنك مخير مثل العيب، فلما ظهر العيب الحسي في المبيعات واستحققت به الرد، والعيب المعنوي الموجود في المبيع واستحققت به الرد، كذلك العيب في الثمن حينما يظهر أن البائع كذب عليك فإن من حقك أن ترد وأن يضمن لك فضل ما بين القيمتين.
قد ذكرنا صورة الصدق وصورة الكذب، ولكن في بعض الأحيان قد يكذب البائع تورية، ويقول لك: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف تشاركني فيها؟ قلت: أشاركك بالنصف، دفعت خمسة آلاف، وتبين أنه اشتراها بعشرة آلاف ولكن بالتقسيط، وليس بالنقد، ولم يخبرك أنها مقسطة، فحينئذٍ يكون قد غشك وورى عليك، فهو اشتراها بعشرة آلاف ولكنه إلى أجل، والأجل تقع فيه زيادة الثمن على المشتري، فلك أيضاً حق المطالبة إن تبين أنه قد خدعك أو ختلك من هذا الوجه.
هناك صورة ثالثة وهي الخطأ، فمثلاً: قلت له: بكم اشتريت هذا القماش؟ وهذا كثيراً ما يقع في تجار الجملة، وكثيراً ما تقع مسألة البيع برأس المال، والمرابحة برأس المال بين التجار في الصفقات التي تقع بينهم في الجملة، وفي بعض الأحيان قد تشتري شاة -ولا يزال كبار السن يتعاملون بهذا النوع من البيوع- ويقول لك: رأس مالي بكذا، وتصدقه وتشتري إما برأس المال، أو تزيد على رأس المال، سواءً وقع هذا في بيع الجملة أو بيع المقطع.
الذي يعنينا الآن أنه أخطأ في القيمة، قلت له: بكم اشتريت هذه الثياب؟ قال: انتظر حتى أنظر: فواتيرها أو مستنداتها، فنظر في الفواتير وقال: بعشرة آلاف، فقلت له: أنا أربحك العشر، بأحد عشر ألفاً، فدفعت المبلغ، ثم تبين أن هذه الفواتير ليست لهذه الثياب وإنما لثياب أخرى، فالرجل ما كذب ولكنه أخطأ.
أو قال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، وتبين أنه كان يظن أنها عمارة أخرى اشتراها بالمليون، ولكن هذه اشتراها بثمانمائة ألف، فإذاً: من حكمة الله عز وجل أنه أعطى كل ذي حق حقه، والحكيم من يضع الأشياء في موضعها، فما دام أن المسلم قد أمن أخاه المسلم حين أخبره برأس المال، فمعناه أن له عليه حقاً أن يصدقه ولا يكذبه، وأن ينصح ولا يغش، ولذلك يقولون: بيع المسلم للمسلم لا كذب فيه ولا خيانة ولا غش ولا تدليس، فإذا ظهر أنه كاذب فله يضمن الحق، والقاضي يعزره، إذا ثبت عنده أنه كذب على فلان في رأس المال، فيعزره بما يناسبه ويناسب من كذب عليه.
وكذلك أيضاً إذا ثبت أنه أخطأ فإنه يعذر، وحينئذٍ يبقى استحقاق صاحب الحق برده بما فضل.
فإذاً: نحتاج أن نبحث مسائل في خيار التخبير: أولها: بيع المرابحة.
ثانيها: بيع المواضعة.
ثالثها: بيع التورية.
رابعها: بيع الشركة.
فهذه أربعة أنواع من البيوع.
فبيع المرابحة: اصطلح العلماء رحمهم الله على أن بيع المرابحة أن تشتري الشيء ويأتي من يرغب فيه ويقول لك: كم رأس ماله؟ تقول: رأس مالي مائة، يقول: أو أربحك العشر، أو الربع، أو النصف، أو المثل، فلو اشتريته بعشرة، وقال لك: أربحك المثل، فمعناه أنه سيشتريه بعشرين، ولذلك يسمونه بيع المرابحة، ومنه القصة المشهورة ل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة، حين جاءت إبله من الشام محملة بالزيت والطعام إلى المدينة، فجاءه التجار وقالوا له: بع يا عثمان، قال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك بالدرهم درهمين، أي: نربحك الضعف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة، أي: ثلاثة أضعاف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نربحك أربعة إلى خمسة، قال: أعطيت أكثر، قالوا: من أعطاك وليس بالمدينة تجار غيرنا؟ قال: أعطاني الله بالدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف، هل عندكم هذا؟ قالوا: لا قال: أشهدكم أنها للفقراء، وتصدق بها رضي الله عنه وأرضاه.
فكان معروفاً عند التجار أن التاجر يأتي لأخيه ويقول له: صفقتك -مثلاً- من الزيت سأربحك الضعف، فيعرفون أنه سيدفع ضعف رأس مالها.
لكن هنا سؤال وهو: هل في بيع المرابحة تحتسب رأس المال الأصلي، أو تحتسب الكلفة؟ هذا أمر يحتاج إلى نظر، فمثلاً: لو اشتريت طعاماً وقيمة الطعام مائة ألف، لكنك نقلته من جدة إلى مكة، وكلفك النقل عشرة آلاف، فهل نقول: رأس المال المائة ألف أو نقول: رأس المال مائة وعشرة آلاف؟ الصحيح أنها مائة وعشرة، وأن عليه أن يبين ويقول: رأس مالي بكلفته مائة وعشرة، أي: كلفتني هذه الصفقة مائة وعشرة.
إذاًَ: بيع المرابحة يشترط فيه أن تملك السلعة وأن تكون في حوزتك حتى تبيعها؛ لأنك لو بعتها قبل أن تملكها فقد بعت ما لم تملك، ومن هنا يتبين خطأ من يقول: يدخل في بيع المرابحة أن تذهب وتختار السيارة ثم تأتي إلى المؤسسة لكي تشتريها لك، ثم تأخذها منها بالتقسيط بعد أن تدفع المؤسسة ثمنها نقداً، وهذا عين الربا، وليس من المرابحة في شيء، فبيع المرابحة صورته معروفة ومعهودة ومشهورة عند العلماء: وهي أن تشتري الصفقة بقيمتها، دون أن يدلك عليها أو يخبرك أحد أنه سيشتريها منك مستقبلاً سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وبعد أن نشتريها يأتيك من يساومك بعد أن حزتها وتبين رأس مالك فيها لكي يخبرك بما سيدفعه لك ربحا، ً ولذلك قال: ولا تكون المرابحة إلا بعد الملكية؛ لأنك ترابح في شيء قد ملكته، ولا ترابح في شيء ليس في ملكك.