بناءً على هذا يرد السؤال بالنسبة للمطالبة بخيار العيب: إذا اشتريت سيارةً أو اشتريت أرضاً أو عمارةً، وتبين لك أن بها عيباً، فإنه من حقك أن تطالب برد المبيع الذي بان عيبه مباشرة، وهذا يسمى المطالبة بالفور، من حقك أن تطالبه فوراً، ومن حقك أن تتراخى بما تعذر به، فإن كان التراخي يشعر بالرضا، سقط حقك في المطالبة بأرش العيب ورد المبيع.
إذاً: يشترط أن يطالب الإنسان على وجه لا يسبقه ما يدل على الرضا، فإن سبقه ما يدل على الرضا من تراخٍ دالٍ على الرضا، أو صريح قول، أو دلالة فعل، فإنه يسقط حقه في رد المبيع، ويسقط حقه في المطالبة بالأرش.
فلو قال: قد رضيت، فهذا الرضا باللسان، ويعتبر إقراره بالرضا حجة عليه؛ لأن الإقرار أقوى الحجج، ولذلك يقول العلماء: إنه سيد الأدلة، والسبب في هذا: أنه لا أقوى من شهادة الإنسان على نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يشهد العاقل على نفسه بما فيه الضرر إلا وهو صادق، ولذلك إذا قال: إني رضيت، أو حينما علمت بهذا العيب رضيت من نفسي، سقط حقه في المطالبة.
ومسألة التراخي والفورية، بعض العلماء يقول: خيار العيب على الفور، فلو أخره سقط حقه، فمثلاً: اطلع على العيب الساعة التاسعة، وكان بإمكانه أن يذهب إلى البائع، فتأخر إلى اليوم الثاني؛ سقط حقه؛ لأن تأخره إلى اليوم الثاني وسكوته في هذه المدة يدل على الرضا.
وبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن يطالبه فوراً، وهذا المذهب في الحقيقة أحوط المذاهب وفيه قوة، وأما التراخي فإن وجد عذر لتراخيه قبل، أما إذا لم يوجد عذر فإنه يقوى القول أن التراخي مشعر بالرضا؛ لأن الدلالة على الرضا تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: دلالة الأقوال.
القسم الثاني: دلالة الأفعال.
وأقوى القسمين: دلالة الأقوال، كأن يقول له ابنه: إن السيارة معيبة، أو وجدت في السيارة عيباً، أو جدت في الدار عيباً، فقال: لا بأس، رضيت، فهذا يدل على أنه رضي، أو اشترى من ابن عمه سيارة أو أرضا، ً فجاءه من يقول له: إن السيارة معيبة، أو هذه الأرض بها عيب، قال: هذا ابن عمي وقد رضيت، فهذا اللفظ: (قد رضيت) يدل دلالة صريحة على أنه لا يطالب بحقه، فيسقط حقه في المطالبة برد المبيع.
ودلالة الفعل، تقدم معنا في بيع المعاطاة أنها تنزل منزلة القول في الرضا، ولذلك قلنا: إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال.
والله اشترط في البيع الرضا، فقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأوجب الله عز وجل أن يوجد الرضا في التجارة أعني: البيع، وبينا هناك أن دلالة الفعل تدل على الرضا كدلالة القول: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فما قالوا إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال؛ إلا لأنهم نزلوا دلالة الأفعال منزلة الأقوال.
ومن هنا قالوا: إذا وجد منه تصرف يدل على الرضا بعد العلم، سقط حقه في الرد، فإنه إذا قال له فلان: السيارة معيبة، فقال لغيره: بكم تشتري مني هذه السيارة المعيبة؟ فإنه لما باعها للغير دل على أنه راضٍ عن العيب الموجود فيها، وإذا رضي سقط حقه في المطالبة برد المبيع المعيب.
قال رحمه الله: [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا، ولا حضور صاحبه] أي: ولا يفتقر خيار العيب إلى حكم القاضي؛ لأن هناك أشياء تتوقف على حكم القاضي: فمثلاً الخلع، قالوا: يتوقف على حكم القاضي، فالأشياء التي تتوقف على حكم القاضي لا يثبت فيها الحق إلا بعد الرفع إلى القاضي، فيثبت القاضي الحق ثم يحكم به، لكن خيار العيب لا يفتقر إلى حكم القاضي، فأنت إذا علمت العيب في المبيع كان من حقك أن تأتيه، وتقول له: يا فلان! هذه السيارة بها عيب، وأنا لا أريدها ما دام هذا العيب موجوداً فيها، فحينئذٍ مطالبتك برد المبيع لا تتوقف على أن ترفعه إلى القاضي، لكن لو أصر وقال: بعتها لك بدون عيب، وأنت تقول: يا فلان! ما كذبتك، ولا غششتك، وهذا المبيع معي، فقال لك: لا أرد، فاختصمتما إلى القاضي، فحينئذٍ يفتقر الأمر إلى حكم القاضي؛ لأنه لم يصدق، فلو أقمت البينة والشهود على وجود العيب، كان من حقك أن تلزمه بالرد ويجب عليه شرعاً أن يرد، وأما إذا لم تقم البينة ففيها تفصيل، وهو الذي سنذكره إن شاء الله في مسألة اختلاف البائع والمشتري.
وقوله: (رضا) أي: ولا يفتقر إلى رضا الطرف الثاني، فلا يتوقف خيار العيب على رضا البائع، فلو جئت إلى البائع وقلت له: هذه السيارة التي بعتنيها فيها عيب كذا وكذا، وأنا لا أريدها، فإنه يجب عليه شرعاً أن يرد، ولا يشترط رضاه بالرد، بل يلزم شرعاً بالرد.
فإذا وجد العيب فإنه يلزم شرعاً بإعطاء الناس حقوقهم ورد أموالهم إليهم، وإذا شاء المشتري أن يأخذ الأرش ويقبل المبيع على التفصيل الذي تقدم بيانه، فإنه لا حرج عليه في ذلك.
وقوله: (ولا حضور صاحبه) أي: ولا يشترط أيضاً حضور صاحب المشتري وهو البائع، فيمكن أن يرده إلى وكيله أو العكس، فلو أنك وجدت في السيارة عيباً، فأرسلت رجلاً فقال: يا فلان! فلان يقرأ عليك السلام ويقول: سيارتك التي بعته إياها معيبة، ويقول لك: رد هذه السيارة فهو لا يريدها، فقال: لن أرد حتى يحضر لم يكن له ذلك، فلا يشترط حضور الطرف الثاني.
وهكذا عند القاضي لو أنك لا تستطيع الحضور عند القاضي فنصّبت وكيلاً، أو محامياً يدافع عن حقك في العمارة التي ظهر بها العيب، أو الأرض التي ظهر فيها العيب، كان من حقك، فلا يقول خصمك: أريد خصمي أن يحضر فليس من حقه هذا، إنما يقضى عن الشخص أصالة عن نفسه وكذلك وكالة عن غيره، ولا يشترط حضور خصمه بعينه.