بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً فأمسكه فله أرشه]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره]: في هذه الجملة شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق ببيع الشيء المعيب الذي لا يمكن أن يطّلع المشتري على عيبه إلا بعد كسره، وقد تقدم معنا بيان ما يتعلق بخيار العيب، وأن من وجد في المبيع عيباً استحق به الرد إذا لم يكن على علم به أثناء العقد.
وبناءً على هذا يرد
Q لو اشترى شيئاً ولم يستطع أن يطلع على عيبه إلا بعد كسره، فما الحكم؟ هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: أن يمكن أن ينتفع به بعد الكسر.
الصورة الثانية: أن يكون المبيع فاسداً، بحيث لو كسره المشتري أو فكه أو فتحه لا ينتفع به بحال، إذا تبين أنه فاسد.
فمثال الأول: جوز الهند، فإنه إذا فتح يمكن أن ينتفع به بعد فتحه ولو كان ما بداخله معيباً.
ومثال الثاني: بيض الدجاج ونحوه، فإنه إذا كان فاسداً وكسر فإنه لا ينتفع به بعد الكسر.
فإن كان الشيء المعيب أو الشيء المبيع الذي فيه عيب يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فحينئذٍ يكون البائع قد باع شيئاً فيه فساد، ولا يمكن أن ينتفع به أو ينتفع به على وجه النقص، إلا أن له حقاً في هذا الشيء؛ لأنه لا زالت فيه منفعة، فيجب على المشتري أن يرد ذلك الشيء وأن يضمن قيمة الكسر، فإذا قال: لا أريد بيض النعام، أو جوز الهند، فنقول له: رده ورد أرش الكسر، والدليل على ذلك: أن المشتري أخذ هذه الصفقة -أعني: جوز الهند وبيض النعام- وهي على صورة مغلفة كاملة القفل، فاعتدت يده بكسرها، فلما انكشف له الحال، قال: لا أرغب، فنضمّنه ما فعلته يده.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الْمُصَرّاة: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فالصاع هو ضمان ذلك الشيء الذي استهلكه المشتري، واعتدت يده عليه بالأخذ، فإذا اعتدت يد المشتري على السلعة بالتصرف بفتح المقفل وكسر البيض ونحو ذلك، فإن العدل أن نقول له: رد ذلك؛ لأن من حقك أن ترد إذا كان معيباً، ولكن رد أرش كسره، فيكون البائع قد ارتجع سلعته، وقد ضُمن حقه كاملاً، ويكون المشتري قد دفع الضرر عن نفسه.
وبناءً على هذا قرر العلماء أن الشيء الذي يكسر أو يفتح ويكون كسره مخلاً به، ويمكن الانتفاع به بعد الكسر، ووجد المشتري فيه العيب، فإننا نقول: من حقك أن ترده بالعيب، ومن حق البائع أن يضمنك ما أتت عليه يدك، فنلزمه بضمان ذلك الكسر.
أما لو كان المبيع كبيض الدجاج ونحوه مما لو كسر لم ينتفع به بعد الكسر، كما إذا كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً، فحينئذٍ يكون غير منتفع به بوجه، فلا يبقى إلا ضمان القيمة كاملة، فيجب على البائع أن يرد للمشتري قيمة البيض كاملة؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع بهذا المبيع بحال.
وقد يسأل سائل لماذا لا يضمن الكسر؟
و صلى الله عليه وسلم أنه إذا باعه بيض الدجاج، وتبين أنه فاسد، فإن الصفقة ليست محلاً للمال، أي: لا تستحق شيئاً من المال، فإذا أتلفها فإنه يتلف شيئاً فاسداً، ولو اعتدت يده عليه فإنه لا يرد بحيث ينتفع به بعد الاعتداء، بخلاف جوز الهند، وبخلاف بيض النعام، فإنه يمكن أن ينتفع به بعد الكسر.
وبناء على هذا، قالوا: إذا باع البيض وهو فاسد ثم تبين ذلك بعد كسره فإنه لا يمكن أن ينتفع بالبيض بعد كسره بحال، فلا يلزم المشتري أن يرد؛ لأنه فاسد لا قيمة له، ولو قيل: إنه كسره فقد كسر شيئاً فاسداً لا قيمة له، فالمعاوضة ودفع المال على هذا الشيء الفاسد، توجب رد المال كاملاً لصاحبه أعني: المشتري.
ومن هنا فرق أهل العلم رحمهم الله بين الشيء الذي يمكن أن ينتفع به بعد كسره وفتحه وفكه، وبين الشيء الذي لا يمكن أن ينتفع به بعد الفك والفتح، ويقاس على ذلك الأشياء الموجودة في عصرنا، فإذا كان الشيء مقفلاً في صندوق، أو موضوعاً في كرتون بطريقة معينة، يتكلف البائع وضعه في هذا الصندوق أو في هذا الكرتون، فإنه يجب ضمان ذلك الشيء الذي أتلفه المشتري، ويرد للبائع عين السلعة ويضمن ما أتلفه من ذلك الغلاف، كما قرر العلماء رحمهم الله، وأصل هذه المسألة في جوز الهند، وبيض النعام.
قوله: [كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً، فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]: [فأمسكه] أي: المشتري، بأن قال: هذا الجوز -جوز الهند- فاسد، وسأنتفع به وهو فاسد؛ ولكن أريد أن يضمن لي حقي من الأرش، فنقدر جوز الهند كاملاً، ونقدره ناقصاً ويدفع الأرش بالصفة التي سبق بيانها.
إذاًَ: إذا اشترى المشتري جوز هند أو بيض نعام، ووجده معيباً، فإنه يخير بين أمرين، بين أن يبقي الصفقة كما هي ويأخذ أرش النقص، وبين أن يرد الجوز ويدفع هو أرش الإتلاف لذلك الجوز وذلك البيض، فما ظُلم البائع ولا ظُلم المشتري.
والعلماء اختاروا جوز الهند بيض النعام؛ لأنهم يريدون أن يمثلوا لك بشيء كان في زمانهم يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فقد كان ينتفع به ويرتفق به، وبناءً على ذلك: ليست القضية مختصة بالجوز إنما القضية كقاعدة فقد تجد في كتب الفقهاء أمثلة غريبة؛ وهي بمثابة الأصول التي يمكن أن يقاس عليها غيرها ويمكن أن يخرج عليها غيرها، ولذلك قالوا: (جوز الهند)؛ لأنهم وجدوا بالتجربة أنه إذا بان شرابه فاسداً، فإنه ينتفع بقحطه ووعائه، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيض النعام، فاختلف الأمر: فاحتاجوا أن يأتوا بمثال لشيء يكسر ولا ينتفع به بحال، فذكروا بيض الدجاج.
ومثال ذلك اليوم الشيء الذي يباع داخل زجاجة، وإذا أردت أن تصل إلى هذا الشيء لا بد أن تكسر الزجاجة لكي تتوصل إلى هذا الشيء، وقد توجد أمثلة في أشياء مبيعة سواءً كانت كهربائية أو غيرها، تكون على صورة معينة بحيث لا تستطيع أن تصل إلى ما تريد إلا بالكسر، فتكسر الزجاج، فإذا كسرت الزجاج فإننا ننظر: إن كان فاسداً بحيث لا يمكن أن ينتفع به بحال، نقول: هذا ككسر بيض الدجاج، فكما أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن من كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً بحيث لا يمكنه أن يطبخه أو ينتفع به للبهائم فيجب على البائع أن يضمن القيمة كاملة، وترد إلى المشتري، فإن قال البائع للمشتري: أريدك أن ترد لي هذا الزجاج كما كان، نقول: هذا ليس من حقك؛ لأنه كسر شيئاً كان من حقه كسره بيد الملكية، فلما تبين أنه معيب، كان من حقه أن يرجع عليك بالمال، وليس من حقك أن تعجزه بما لا يمكنه من رد الزجاج كما كان، وعلى هذا لو قال له: أعد الزجاج كما كان، فهمنا أن المقصود الإضرار والتعجيز، حتى يأخذ ماله بالباطل.
قد يقول قائل: إن المشتري قد كسره، فلو طالبناه بالرد كان شيئاً صحيحاً، ولا دخل لنا هل يمكنه أو لا يمكنه، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أنس في الصحيحين في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال يخاطب البائع: (أرأيت أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فنحن نقول: لو كان بيض الدجاج فاسداً، فمعنى ذلك أن قيمته -مثلاً- خمسة، فلو كسره ولم يجد به شيئاً صالحاً، فلو قلنا: إنه بكسره له غنمه وعليه غرمه، ظلمنا المشتري؛ لأنه دفع الخمسة في شيء لا يستحق قيمة، هذا إذا قلنا: إنه يضمن وله نفعه وعليه ضرره، وإن قلنا: يرده كما كان، فهذا تكليف شرطه الإمكان، وقد تبايع مع أخيه المسلم على شيء صالح، وهذا الشيء فاسد، فهذا ليس بمحل للعقد، ولا بمورد للعقد، ومطالبته برده إلى ما كان تعجيز، ويؤدي إلى باطل وهو استحلال المال بدون حق، فكان باطلاً؛ لأن ما أدى إلى باطل فهو باطل.
وبناءً على هذا: فليس من حق البائع أن يقول له: رد لي بيض الدجاج كما كان، أو رد لي الطبق كما كان، فلو أقام شاهدين عدلين أو شاهداً وحلف معه اليمين أن هذا الطبق فاسد، كان من حقه أن يرد له القيمة كاملة، ولا يطالبه بضمان عين البيض المنكسر.
[وإن رده رد أرش كسره]: وإن رد المشتري المبيع رد أرش كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فأوجب عليه الصلاة والسلام أن يدفع ما أتلفت يده وهو اللبن، وذلك بالصاع من التمر، وهذا من ضمان الطعام بجنسه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أتلف المشتري شيئاً من المبيع، وكان مما يمكن أن ينتفع به بعد الإتلاف، رد المبيع مع ضمان النقص الذي أدخله بالتصرف، فحينئذٍ لم نظلم البائع، ولم نظلم المشتري.
أما البائع فقد رجع له المبيع وضمن له النقص.
وأما المشتري فقد رجع له ماله الذي دفعه، وأُخذ منه مقدار ما جنت يداه.
قال رحمه الله: [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]: هذه الحالة الثانية: أي: وإن كان المبيع مثل بيض الدجاج لا يمكن أن يطلع على عيبه إلا بإتلافه، وإذا اطلع على عيبه وكان فاسداً لم يمكن أن ينتفع به بعد ذلك، فيجب على البائع أن يرد القيمة كاملة.