Q ما معنى قول بعض العلماء رحمهم الله: (ويستثنى من خيار المجلس: تولي طرفي العقد، والكتابة، وشراء من يعتق عليه، وإذا اعترف بحريته قبل الشراء) أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هناك صور للبيع الذي يتولى فيه طرفي العقد شخص واحد، مثل النكاح، فقد يكون الرجل في بعض الأحيان ولياً وزوجاً، وكذا إذا تولى البيع والشراء شخص واحد، كأن اشترى لنفسه وكان وكيلاً عن غيره في البيع.
فمثلاً: لو كان عنده أيتام لهم عمارة فأراد أن يبيعها لهم، ليشتري لهم ما هو أصلح، فعرضها للبيع فرأى أن من مصلحته أن يشتريها، فهو بائع من وجه: من جهة الولاية، ومشترٍ من وجه: من جهة الأصالة، فهو أصالة عن نفسه مشترٍ، وولاية عن الغير بائع، فكيف يكون خيار المجلس؟ لأن البائع والمشتري بالخيار، لكن هنا هو البائع وهو المشتري، فلا يستطيع أن يخرج من نفسه أو أن يفارق نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قيد الخيار بأن يفارق صاحبه إن كان بائعاً أو مشترياً.
فقالوا: إن هذه الصورة لا يكون فيها خيار، فبمجرد إيجابه للبيع يتم.
ثم ذكر بعد ذلك الكتابة بين السيد وعبده، ومعلوم أن العبد لا يملك المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) أي: المشتري، فدل الحديث على أن يد العبد خلو لا تملك المال؛ لأنه إما للبائع وإما للمشتري، والسبب في هذا الكفر؛ لأنه لما كفر وضرب عليه الرق، كان عقوبة له أن لا يملك وأن يكون في حكم المملوكات؛ لأن الله جعل من كفر كالبهيمة وأسوأ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44] فلما أشرك بالله وكفر بالله خرج عن مقام الإنسانية وأصبح في مقام المتاع الذي يباع ويشترى، وما ظلمه الله، بل هو الذي ظلم نفسه.
فالشاهد: أنه أخذ يد العبد عن الملكية.
لكن لو أن رجلاً عنده عبد فأسلم العبد وقال لسيده: أريد أن تكاتبني، والله تعالى يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فهذا العبد يريد أن يعتق نفسه والشرع يفتح أبواب العتق، فكونه رقيقاً يقتضي أن جميع ما يملك ملك لك، فهو إذا كاتبك لا يخرج عن ملكيتك إلا بعد أن يؤدي أنجم الكتابة، ولا يملك المال حقيقة إلا إذا صار حراً، فيصبح في هذه الحالة كأنك تعقد مع نفسك؛ لأن العبد وما ملك ملك لسيده، فعقد الكتابة لو جئت تتأمل لوجدت أنك في الأصل تملك العبد وماله، وهو لم يعتق الآن، فكأنك عندما تكاتبه تكاتب مع نفسك.
وقوله: (شراء من يعتق عليه)، أي: كوالده، فلو أن إنساناً اشترى ذا رحمٍ منه، كوالده ونحو ذلك، فإنه يكون في حكم الحر، وفي هذه الحالة يخلو العقد من حقيقته؛ لأن الصفقة ماضية ماضية، والمالك الذي هو الابن مع أبيه، من عظيم حق الوالد عليه فكأنه يشتري نفسه، ويصبح العقد كأنه في يد الوالد، كأن إيجابه وقبوله للوالد، ولذلك يعتق عليه سواء رضي أو لم يرض، فدل على أن يده خلو من الملكية، فكأن العقد بيد الوالد، فيصبح في هذه الحالة لا إيجاب ولا قبول من حيث الأصل، فلا خيار في هذا.
وقوله: (إذا اعترف بحريته قبل الشراء) كما لو اشترى من كان يقر بحريته، ثم اشتراه.