العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها

ثم إن العقود تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما لا يلزم الطرفين لا حالاً ولا مآلاً.

القسم الثاني: ما يلزم الطرفين حالاً ومآلاً.

القسم الثالث: ما يلزم الطرفين أو أحدهما مآلاً لا حالاً.

فهذه ثلاثة أقسام للعقود.

يتركب منها مسألة الخيار، فحتى نعرف أين محل الخيار في العقود والمعاملات المالية وما يتبعها، ينبغي أن نقسم بهذه التقسيمات: القسم الأول: ما كان من العقود غير لازم لا حالاً ولا مآلاً: وهذا يشمل الأنواع الآتية: أولها: عقد العارية.

ثانيها: عقد الوديعة.

ثالثها: عقد القراض أو ما يسمى بالمضاربة.

رابعها: عقد الشركة.

نبدأ بالعارية: وهي أن يأخذ يستعير منك شيئاً، كالسيارة مثلاً، فإنك لست بملزم بأن تدفع له السيارة، فلك أن تعطيه ولك ألَّا تعطيه.

فإذا أخذ السيارة وجئت في أي وقت تقول له: أعطني إياها، فإنه يلزمه أن يعطيك.

كذلك أيضاً إذا أخذها هو وأراد أن يردها لك في أي وقت فله ردها، فالأخذ في مقابله الرد لا يلزم لا حالاً ولا مآلاً، فهذا النوع يكون الخيار ثابتاً فيه للطرفين إلى الأبد، وليس من حق أحدهما أن يقطع الخيار على الآخر.

وكذلك الوديعة: لو أن شخصاً جاءك وقال: هذه عشرة آلاف ضعها وديعةً عندك.

فمن حقك أن تقول: لا أضعها، وتمتنع من ذلك، وإذا وضعتها فمن حقك بعد دقيقة واحدة أن تقول له: تعال يا فلان وخذ وديعتك، ولست ملزماً بأن تبقيها المدة التي اتفقتما عليها، وكذلك هو لو قال لك: ضعها وديعةً عندك شهراً، فجاءك بعد ساعة أو بعد يوم، فمن حقه أن يأخذها في أي وقت شاء.

فإذاً: لا تَلزمك ولا تَلزمه لا حالاً ولا مآلاً.

القسم الثاني من المعاوضات -وهو الذي يعنينا وهو المهم-: ما يلزم حالاً ومآلاً: وهو أن تتعاقد مع الطرف الثاني فتُلْزَم بالعقد حالاً، وتلزم به مآلاً، ويسمى هذا النوع من العقود: "العقود اللازمة"، ويعبر عنها بعض العلماء فيقول: تلزم في أول حال وثاني حال، مثل: البيع الإجارة النكاح الخلع.

فمثلاً في البيع: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف.

فقلت: قبلت، فإذاً: "بعتك" إيجاب، و"قبلت" قبول، فتم العقد، فالأصل يقتضي أنك ملزَم بهذا البيع أن تدفع له العشرة آلاف ويدفع لك السيارة.

كذلك لو قال لك: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف.

فقلت: قبلت، فإنك ملزم بهذا النكاح، ويعتبر النكاح لازماً لولي المرأة ولازماً للمرأة ولازماً للزوج، أي: يعتبر لازماً لطرفي العقد أصالةً ووكالةً، فليس من حقك أن تقول: لا أريدها، فإذا قلت: لا أريدها فحينئذٍ هناك طريقة لفسخ هذا العقد، فالعقد لازمٌ وماضٍ، فإذا أردت أن تطلق طلقت، وهي إذا ظُلِمَت فلها أن تفسخ عن طريق القاضي؛ لكن العقد لازمٌ وماضٍ من حيث الأصل، فاللزوم ثابت فيه في أول العقد الذي هو الحال، ولازم في المآل، فهو باقٍ ولازمٌ إلى الأبد.

كذلك أيضاً في الخلع؛ قالت له: خالعني بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإنه يُلزم بخلع المرأة منه ويلزمه قبول العشرة آلاف.

فهذا العقد الذي تمّ بينهما وهو خلع النكاح وفسخه على هذا الوجه بعشرة آلاف، يلزم المرأة أن تدفع العشرة آلاف ويلزم الرجل أن يخالعها، إذاً: يلزمهم في الحال ويلزمهم في المآل.

وهذا القسم الثاني من المعاملات الذي يلزم في الحال والمآل ينقسم إلى نوعين: النوع الأول: ما يدخله الخيار، وهذا هو الذي يعنينا هنا كالبيع والإجارة والسلم والصلح بعوض.

النوع الثاني: ما لا يدخله الخيار، كالنكاح والرجعة والخلع، فهذه لا يدخلها خيار ألبتة.

القسم الثالث: ما لا يلزم حالاً ويلزم مآلاً: فمن أمثلته: الجعالة، لو أن رجلاً قال: من وجد سيارتي الضائعة فله عليَّ عشرة آلاف ريال، فالناس غير ملزمين أن يذهبوا ليبحثوا عن سيارته، فإن شاءوا بحثوا وإن شاءوا لم يبحثوا، فليس بلازمٍ أن يقوموا بالعقد، فلو أن رجلاً ذهب وبحث ووجد السيارة لزم العقد، فهو ابتداء غير لازم، لكنه في المآل إذا وجد السيارة فإننا نفرض على صاحبها أن يدفع العشرة آلاف.

ففي الابتداء لك الخيار أن تدخل وأن تبحث، لكن لا يلزم الطرف الثاني أن يدفع لك شيئاً ولا أن يتم الصفقة إلا إذا وجدت ما ركّب الشرط عليه، فهذا عقد الجعالة.

كذلك عقد الاستهلاك بالضمان: فلو أن رجلاً معه شيء فيه ضرر، فقلت له: يا فلان! إن أتلفت هذا الشيء الذي فيه ضرر أعطيك عوضاً عنه مائة ريال، فعندئذ إن شاء هو اتلف وإن شاء لم يتلف، فهو بالخيار، وأنت لا تلزم بشيء في بداية العقد؛ لكن لو أنه أتلف ألزمت بدفع ما تكفلت به، فلو أنه أتلفه وتمت صفة الإتلاف في العين التي اشترطت إتلافها، لزمك أن تدفع المائة لقاءها، فهذا يسمونه الاستهلاك بالضمان.

كذلك أيضاً في العتق بعوض: فلو أنه قال له: إذا أعتقت عبدك فلك عليَّ عشرة أو مائة، فهو مخير إن شاء أعتق وإن شاء لم يعتق؛ لكنه لو أعتق فإنه يُلزم الطرف الثاني بإعطاء العشرة والمائة، وهذا ما يسمى بالعتق بالبدل.

فهذه العقود في ابتدائها ليست بلازمة في أول الحال؛ لكنها تئول إلى اللزوم في ثاني الحال.

و Q إذا كانت العقود على هذه الثلاثة الأقسام ما يلزم حالاً ومآلاً، وما لا يلزم حالاً ولا مآلاً، وما يلزم في ثاني الحال ولا يلزم في أول الحال.

فأين محل الخيار؟ أو في أي نوع من هذه العقود يدخل الخيار؟

و صلى الله عليه وسلم العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً الخيار فيها مؤبّد لكلا الطرفين، مثلاً الشركة لو جاءك رجل وقال: لو أنني اشتركت مع زيد بمائة ألف، فدفع هو مائة ألف وأنا مائة ألف واشتركنا وتمت التجارة والصفقة، ثم أردت أن أفسخ الآن، هل من حقي هذا؟ فتقول: من حقك أن تفسخ في أي وقت، فأنت بالخيار: إن شئت فلك أن تبقي الصفقة وتبقي عقد الشركة، وإن شئت أن تلغيه في أي وقت فلك ذلك أيضاً، إلا في حالات مستثناة مثل: وجود الضرر على الطرف الثاني، فهذه فيها تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب الشركة والقراض.

والآن في بعض الشركات تشترك مع رجل ويقول لك: تدفع مائة ألف وأدفع أنا مائة ألف ونصير شركاء في هذه الشركة، ولا يجوز لك أن تنسحب من الشركة قبل سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فما الحكم؟ نقول: هذا الشرط باطل؛ لأنه يسقط الخيار الأبدي المجعول من الشرع، وما أدى إلى باطل فهو باطل، فليس من حقه أن يلزمه في الشركة ولا في القراض ولا في نحوها من العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً؛ لأنه يسقط خيار الشرع، فالشرع جعلها على الخيار وهذا يريد أن يجعلها على اللزوم، ويضر بأخيه المسلم فيما وسع الله عليه.

فهذا النوع الأول يكون الخيار فيه أبدياً ولا إشكال فيه من حيث إن المتعاقدين أو أحدهما لو أراد أن يفسخ فله أن يفسخ، حتى ولو كان الطرف الثاني غير راضٍ.

وأما النوع الثاني: وهو الذي يلزم في الحال والمآل فقد ذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين: منه ما يدخله الخيار كالبيع والإجارة والصرف والسلم والصلح بعوض ونحوه، ومنه ما لا يدخله خيار كالنكاح والرجعة والخلع بعوض ونحوه.

وأمّا النوع الثالث: وهو الذي لا يلزم في الابتداء ويلزم في المآل؛ فإن الخيار فيه في الابتداء للمتعاقدين، فإذا صار إلى اللزوم فإنه حينئذٍ يسقط الخيار بوجود اللزوم فيه؛ لأن الشرع ألزم المسلم بالعقد، فلما قال: سأعطيك عشرة آلاف إن أحضرت سيارتي أو أحضرت عبدي أو دابتي، فإنه يلزم بذلك بعد الوجود، ولا خيار له في الإسقاط.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015