بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] الشروط: جمع شرط، وقد بينا تعريف الشرط لغة واصطلاحاً.
وقلنا: إنه في اللغة: العلامة، ومنه الشرطة وهي العلامة على الشيء.
وأما في الاصطلاح: فالشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ومثلنا لهذا بالطهارة في الصلاة، فإنه إذا انتفت الطهارة انتفت الصلاة ولا يجوز لك أن تصلي، وإذا وجدت الطهارة فلا يستلزم من وجودها وجود الصلاة فقد تتوضأ ولا تصلي.
وقوله: (باب الشروط في البيع) الشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط شرعية.
القسم الثاني: شروط جعلية.
أما الشروط الشرعية: فهي الأمارات والعلامات التي نصبها الشرع للحكم بصحة البيع، كما تقدم معنا ومنها: أن يكون البائع مالكاً للمبيع وأن يكون المشتري مالكاً للثمن أو مأذوناً له بالتصرف، فإذا تخلفت الملكية كما لو أن رجلاً باع شيئاً لا يملكه، فلا يصح البيع، وكذلك أيضاً إذا باع بدون رضاً كأن يكره أو غصب منه فلا يصح البيع.
إذاً: الشرط كأنه علامة على الصحة متى ما وجد حكمنا بالصحة، وهذا النوع من الشروط شروط شرعية؛ لأن الكتاب والسنة نصا على علامات وأمارات ينبغي توفرها في البيع، فمثلاً: قال سبحانه وتعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فقال: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فاشترط الرضا، فهذا يدل على أنه لا يصح البيع إلا بالرضا، كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر فنقول: من شرط صحة البيع أن يكون الثمن والمثمن معلوماً لا غرر فيه ولا جهالة.
وهذه الشروط الشرعية سبق الكلام عليها، وتبقى الشروط الجعلية، والشروط الجعلية: هي الشروط التي يدخلها البائع أو المشتري أو هما معاً في صفقة البيع، فمثلاً يشترط المشتري ويقول: أشترط عليك أن توصل هذا الشيء إلى بيتي، كأن يشتري طعاماً ويقول لصاحب المطعم: أشترط أن تحضره إلى بيتي الساعة التاسعة مثلاً، فهذا بيع وفي هذه الحالة اشترط عليه أن يحضره إلى بيته، أو اشترى ثلاجة واشترط على البائع أن يحملها إلى بيته، أو اشترى سيارة واشترط على البائع أن يوصلها إلى مدينته، كأن يكون اشتراها في جدة وهو مقيم في مكة فيقول: أشترط أن توصلها إلى مكة.
أو يشترط البائع على المشتري ويقول له: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف بشرط أن تدفعها نقداً أو يقول له: أبيعك هذه السيارة أو هذه الثلاجات أو الغسالات أو الأثاث الذي تريد أن تشتريه بعشرة آلاف مقسطة، كل شهر تدفع ألفاً؛ ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً مليئاً يكفلك، أو كفيلاً غارماً أو تحضر لي رهناً، بحيث لو تعذر السداد أبيعه وآخذ الذي لي عليك، فهذا شرط من البائع على المشتري.
فعندنا شروط من البائع على المشتري، وشروط من المشتري على البائع، وقد تقع مقابلة، فيشترط البائع، ويشترط المشتري، ويسمي العلماء هذا النوع من الشروط بالشروط الجعلية، أي: هي في الأصل ليست موجودة في العقد وإنما جعلت في العقد، اشترطها كل منهما إما لمصلحته أو لمصلحة البيع إمضاءً له، كأن يشترط لمصلحته ويقول: أشترط أن يكون البيت فيه كهرباء، فهذا لمصلحته حتى ينتفع بالبيت، أو أشترط في هذه الأرض أن يكون لها صك، فهذا لمصلحته حتى إذا نوزع في هذه الأرض يستطيع أن يثبت ملكيته عليها، وغيرها من الشروط التي يقصد بها مصلحته، وقد تشترط الشروط لإتمام البيع وتكون لمصلحته كالرهن، كما سيأتي إن شاء الله، وقد تكون الشروط من مقتضيات العقد.
فهذه الشروط لما كان الناس يتعاملون بها وتقع بين الناس احتاج العلماء عند بيانهم لأحكام البيع أن يبينوا أحكام هذه الشروط، فهناك شروط أذن الله بها ويجب على البائع والمشتري أن يمضياها، وهناك شروط حرمها الله عز وجل ولم يأذن بها، وهذا الذي حرمه الله عز وجل منه ما يوجب فساد البيع، أي: إذا وجد يفسد الشرط ويفسد البيع، ومنها ما يكون فاسداً في نفسه لكنه لا يفسد البيع، فنقول: البيع صحيح وعلى البائع أن يمضي الصفقة وعلى المشتري أن يمضي الصفقة؛ ولكن يسقط هذا الشرط فوجوده وعدمه على حد سواء.
هذه الشروط الجعلية مهمة جداً وطلاب العلم يحتاجون إلى معرفة أحكامها وبيان ما الذي يترتب على الشرط المشروع، وما الذي يترتب على الشرط الممنوع، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] وهناك فرق بين قولنا: (باب شروط البيع) وبين قولنا: (باب الشروط في البيع)، فشروط البيع هي الشروط الشرعية، والشروط في البيع هي التي يدخلها المتعاقدان أو أحدهما، أو تقول: يدخلها أحد المتعاقدين أو هما معاً، ولذلك لو سئلت: ما الفرق بين شرط الشيء والشرط في الشيء؟ تقول: شرط الشيء: هو ما نصبه الشرع من أمارة وعلامة لصحته أو وجوبه، ومن الأمثلة على ما يكون لوجوبه: أن الزوال شرط لوجوب صلاة الظهر، ومن الأمثلة على ما يكون لصحته: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة وأما الشرط في الشيء فتقول: هو ما يدخله المتعاقدان أو أحدهما، سواء المتعاقدان في بيع، أو المتعاقدان في نكاح، فالآن لو تعاقد شخص مع ولي امرأة قال له: زوجتك بنتي بعشرة آلاف، تدفع خمسة آلاف نقداً، وخمسة آلاف إلى أجل، فهذا شرط في النكاح، ويسمى: (شرطاً في النكاح) ولا يسمى: (شرطاً للنكاح)، فهذا معنى قول المصنف: [باب الشروط في البيع] كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالشروط التي تكون بين المسلمين في بيوعاتهم.
والشروط الكلام فيها في مواضع: الموضع الأول: ما هو موقف الشرع من الشروط في البيع؟ نقول: دلت الأدلة على مشروعية الشروط في البيع، والدليل الأول: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإن هذه الآية الكريمة ألزم الله فيها المتعاقدين بالوفاء بالعقد، والعقد هنا مطلق يشمل العقد المشتمل على الشروط والعقد الذي لا شرط فيه، فإذا اشترط عليه فكأنه من العقد، وعلى هذا يكون قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] أي: أمضوها بشروطها إذا كانت مشروعة.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) فهذا يدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم أن يفي بشرطه، وأنه يلزمه أن يفي لأخيه المسلم بما اشترط على نفسه تجاهه، ولا يجوز له أن يختله ولا أن يخدعه ولا أن يغشه وعليه أن يمحضه النصيحة بالوفاء له.
وكذلك أيضاً دل دليل الأثر فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في كلمته المشهورة: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: إذا أردت أن تقطع الحق فتعطي مال الناس للناس، وتأخذ مالك من هذه الحقوق فإنما يكون بالشروط، فإذا كان بينك وبين أخيك المسلم شرط ووفيت له الشرط على أتم الوجوه وأكملها فقد قطعت له حقه كاملاً، وعلى هذا (مقاطع الحقوق عند الشروط) معناه: أنه يلزم المسلم إذا أراد أن يؤدي حق أخيه المسلم أن ينظر ما الذي اشترطه على نفسه تجاهه فيؤدي له ذلك الشرط كاملاً تاماً.
وأداء الشروط والقيام بها من النصيحة، والله عز وجل أوجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم.
ومن الغش أن يشترط عليه ويقول له: هل السيارة من نوع كذا؟ قال: من نوع كذا، فجاء فإذا السيارة ليست كما قال، فمعنى ذلك أنه غشه وأنه كذب عليه، والغش والكذب لا يأذن الله بهما، وإذا وفى له وأدى له الأمر كما اتفقا فقد صدق وبيَّن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالله يبارك لك في المال الذي تأخذه ويبارك لك في الصفقة التي تأخذها إذا وفيت بشروطها، وعلى هذا أجمع المسلمون من حيث الجملة على جواز الشروط في البيع.
والشروط في البيع تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما هو صحيح وأذن الشرع به.
القسم الثاني: ما هو غير صحيح ولم يأذن الشرع به، بل هو يخالف الشرع ويضاده.
فأما الشروط الصحيحة: فهي التي تكون من مقتضيات العقد أو مما يعين على إمضاء العقد، أو مما يشتمل على منفعة لا دليل على تحريمها وأذن الله عز وجل بها، سواءً كانت منفعة للبائع أو منفعة للمشتري أو لهما معاً، فهذه ثلاثة أنواع للشروط الصحيحة، والشروط الصحيحة هي الأساس، والأساس أننا إذا قلنا: إن الشروط مشروعة فالمراد منها ما لم يعارض الشرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وذلك أن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأخبرتها أن أولياءها قبلوا من عائشة أن تدفع الثمن -ثمن بريرة - ويكون ولاء بريرة لهم، وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع أن من أعتق الأمة أو العبد فالولاء له؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، إنما الولاء لمن أعتق) فالولاء لمن أعتق، فهم خالفوا الشرع وقالوا: الولاء لنا وهم لم يعتقوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فدل هذا الحديث على أن من الشروط ما ليس من كتاب الله عز وجل، ومفهومه: أن ما كان منها موافقاً لكتاب الله وموافقاً لشرع الله فليس بباطل بل هو صحيح، ومن هنا: اصطلح العلماء على تقسيم الشروط إلى: شروط شرعية، وشروط غير شرعية، وهي الشروط المشروعة والشروط الممنوعة.