قال رحمه الله: [ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة، أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز].
قوله: [ومن باع ربوياً بنسيئة].
ذكر المصنف رحمه الله صورة من الصور التي يحرم فيها البيع لاشتماله على ما يفضي إلى الأمر المحرم وهو الربا، وصورة ذلك أن يبيع الطعام مثلاً بالنقد ثم يعتاض عنه بالطعام، والسبب في ذلك: أن الأصناف الربوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يحرم فيه التفاضل والنَّساء.
القسم الثاني: ما يحرم فيه النَّساء ويجوز فيه التفاضل.
القسم الثالث: ما يجوز فيه الأمران.
والأصل في ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثْلاً بمِثْل يداً بيد) فهذه الأشياء الستة التي اشتمل عليها حديث أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه تسمى عند العلماء بالأصناف الربوية الستة، وهي تنقسم إلى الثلاثة الأقسام: فهناك ما يجب فيه التماثل والتقابض، كبيع ذهب بذهب وفضة بفضة، كأن يباع واحد من هذه الأصناف الستة بمثله، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة أو بر ببر.
إلى آخره، فيجب التماثل، فتبيع الكيلو الذهب بالكيلو الذهب، ويجب التقابض، يعطيك وتعطيه قبل أن تفترقا من المجلس، فهذا بالنسبة للنوع الأول.
النوع الثاني: ما يجوز فيه التفاضل ولا يجوز فيه النَّساء، وذلك بمقابلة واحد من هذه الأصناف بواحد من جنسه، مع اختلافٍ في الصنف، كبيع الذهب بالفضة، فإنك إذا بعت الذهب بالفضة يجوز التفاضل، فتبيع الكيلو من الفضة بنصف كيلو من الذهب، ويجوز أن تبيع المائة غرام من الذهب بثلاثمائة غرام من الفضة، فلا يشترط التماثل؛ لكن يجب أن تعطيه ويعطيك في نفس المجلس، فلو اشتريت الذهب بالريالات الموجودة الآن وافترقتما قبل أن يقبض منك فحينئذٍ يكون الربا المحرم، وهو ربا النسيئة، كذلك لو بعت براً بشعير أو بعت تمراً بملح، فإنه يجوز أن تبيع الصاع بالصاعين وتفاضل في الوزن والكيل؛ ولكن يجب أن يكون يداً بيد.
فلو باعه مائة صاع من التمر بألف ريال إلى أجل ما، فلما حضر الأجل قال له: ليست عندي المائة ريال؛ ولكن خذ بدل مائة صاع من تمر مائة صاع من شعير أو مائة صاع من بر، فإنَّ بيع الشعير بالتمر لا يجوز إلا يداً بيد، قالوا: فلو قَبِل منه الطعام عوضاً عن الذهب في هذه اللحظة لصار كأنه باع التمر الذي باعه أولاً بالمطعوم الثاني وهو البر؛ ولكن نسيئةً وهو أجل الدين الذي وقع بينهما.
توضيح ذلك: جاء رجل إلى أخيه فقال له: بعني هذه المائة صاع.
قال: بألف.
قال: أشتريها منك بألف إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية الأسبوع، فتم البيع وأوجبه، فيجوز أن تدفع الذهب لقاء التمر مؤجلاً، فلا بأس فيه، وأن تشتري بالفضة مؤجلاً أو بالذهب مؤجلاً ما دام أنه طعام لقاء الثمن؛ لأن الجنسين مختلفان، ففي هذه الحالة إذا باعه التمر نسيئةً بنقد من ذهب أو فضة جاز، فلو جاء وقت السداد وأراد أن يحوله من الذهب أو الفضة إلى طعام، فقد حوَّله إلى صنفٍ ربوي لا يجوز أن يبيع التمر به نسيئة؛ لأن البيع الأول الذي وقع بينهما لم يقع يداً بيد وإنما وقع بنسيئة، فلو قبل منه الطعام في ذلك الوقت -أعني: في المراضاة الثانية- فقد صار الأمر كأنه قد باع الطعام بالشعير نسيئةً، وهذا معنى قوله: [واعتاض عن ثمنه بما لا يباع به نسيئة].
أما لو اشتريت بالذهب وقلت له: أعطني مائة صاع بنصف كيلو من الذهب، قال: قبلت، قلت: أعطيك النصف كيلو من الذهب في نهاية الشهر، فلما انتهى الشهر قلت: ليس عندي ذهب؛ لكن أصرف لك بمثله فضةً، جاز إذا كان يداً بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكى له ابن عمر أنه يبيع الإبل بالذهب ويبيع بالدراهم ويأخذ الدنانير قال: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء) فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم صرف الذهب بالفضة؛ لكن بشرط أن يكون ذلك في مجلس العقد، هذا معنى العبارة، وحينئذٍ يكون هذا النوع من البيع من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن الربا ينقسم إلى قسمين: الربا المحض، والذي هو الأصل، سواءً كان من الأصناف المنصوص عليها أو المقيسة.
والربا الذي هو ذريعة، بمعنى: أن البيع يئول إلى الربا، وهذا كله إن شاء الله سنبسطه في باب الربا، نسأل الله التيسير، وأن يبلغنا ذلك.