قال رحمه الله: [ولا يباع حملٌ في بطن].
هذا تطبيق للشرط الذي ذكرناه، وفيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع حبل الحبلة)، وفي السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح)، و (المضامين): ما في بطون النوق، و (الملاقيح) قيل: إنها ما في أصلاب الفحول، وهذه السنة تدل على عدم جواز بيع الأجنة في البطون، سواء كانت في الإبل أو البقر أو الغنم، فلو قال له: أبيعك ما في بطن هذه الناقة، أو ما في بطن هذه البقرة أو ما في بطن هذه الشاة، أو أبيعك ما في بطن هذه الأمة فهذا كله من بيع المجهول، ولا يجوز، ويعتبر من بيع الغرر، ويجب في هذه الحالة رد الثمن إلى صاحبه، وإلغاء البيع، ويتوقف حتى ينتهي أمد الحمل، ثم تضع الناقة، وينظر في صفة الموضوع الذي تضعه، ويجرى العقد بعد وجوده وخروجه.
قال رحمه الله: [ولبن في ضرع، منفردين].
(ولبن في ضرع) أي: ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وقد جاء فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الصوف على الظهر، واللبن في الضرع)، وهذا الحديث رواه البيهقي في سننه وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وفيه عمرو القتّاب وثقه غير واحد من العلماء، حتى قال بعض أهل العلم: حديثه مما يقبل التحسين؛ لأن البخاري ذكره وسكت عليه، ولم يضعفه، ولم يذكره بجرح، وبقية رجال الحديث ثقات.
وفي الحديث النهي عن بيع ما في الضرع؛ والسبب في هذا: أن الذي في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة أو حتى في ضرع الآدمية مجهول لكن المرأة يجوز أن تدفع لها المال أجرة من أجل أن ترضع الولد، فلو قالت: أنا أبيع ما في ثديي من الحليب بمائة، فلا يجوز؛ لأنه لا يُدرى أقليلٌ هو أو كثير؟ ثم لا يُدرى أيخرج جيداً أم رديئاً؟ ولذلك يقول العلماء: بيع ما في الضرع من بيع المجهول.
وندرك هنا دقة المصنف رحمه الله لما يأتي بأمثلة: تارةً الضرع، وتارةً الحمل، وهذا كله من باب تطبيق القاعدة التي ذكرها في الشرط وهي: وجود الجهالة، فإن الذي في الضرع مغيب وعلمه إلى الله عز وجل ولا ندري أقليل هو أو كثير؟ لكن لو أنه حلب ما في ضرع الناقة، أو ما في ضرع البقرة أو الشاة في إناء وعرضه للبيع جاز، إذا كان معلوم القدر؛ لأنه قد زالت الجهالة وانتفى الغرر، فالعلة الجهالة.
وأما مسألة بيع لبن الآدمية إذا حلب، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، وهو هل يجوز بيع لبن الآدمية، أو لا يجوز؟ والصحيح جوازه؛ وذلك لأن الأصل جواز البيع حتى يدلَّ الدليل على منعه، وليس هنا دليل؛ ولأنه جازت الإجارة عليه فجاز البيع؛ ولأن الذين قالوا بتحريمه قاسوه على لبن الأتان -أنثى الحمار أكرمكم الله- فقالوا: الأتان محرمة الأكل، والآدمية محرمة الأكل، فيحرم بيع لبن هذه كهذه، وهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأنه معلوم أن الحُمر لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحومها قال: (إنها رجس)، ثم إن لحوم الأتن مذهب طائفة من العلماء نجاستها، حتى إنهم قالوا: لا يجوز شرب لبن الأتان إلاّ عند الضرورة، وقد نظم بعض العلماء هذه المسألة بقوله في الضرورات المباحة لوجود الحاجة: وَلَبنُ الأُتنِ لِلسُّعَالِ وَالجلْدُ لِلرِئْمَانِ فِيْهِ جالي (ولبنُ الأتن للِسَّعالِ) أي: لعلاج من به سعال ديكي، إذا لم يوجد له دواء غيره فيجوز.
الشاهد: أن لبن الأتن محرم، لكن لبن الآدمية مباح، فحرم بيع لبن الأتان؛ لأنه محرم، وجاز بيع لبن الآدمية؛ لأنه مباح، فنقول: قياسه على لبن بهيمة الأنعام من الإبل والبقر أولى من قياسه على لبن الأتان.
وقد قاسوا قياساً آخر فقالوا: ما دمتم تقولون: إن لبن الأتان محرم نعطيكم قياساً من الآدمية نفسها، ونقول: يحرم بيع لبن المرأة كما يحرم بيع أعضائها، فكما أنه لا يجوز بيع يدها ورجلها فكذلك لا يجوز أن تبيع حليبها؛ لأن الكل من البدن.
ورُدَّ عليهم هذا القياس وقيل لهم: إن قطع الأعضاء مضرة وخروج اللبن مصلحة، فجاز بيع اللبن؛ لأن فيه المصلحة، وحرم بيع الأعضاء؛ لأن فيه مضرة، قالوا: نعطيكم شيئاً آخر، ونعطيكم سائلاً كاللبن، فإنه يحرم بيع لبن الآدمية كما يحرم بيع دموعها ورُدَّ عليهم: بأن الدموع لا منفعة فيها، واللبن فيه منفعة، فحرم بذل المال لما لا منفعة فيه؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وجاز بيع اللبن؛ لأنه مما فيه منفعة ومصلحة للبدن.
فمن ناحية الأقيسة التي يذكرونها لم يستقم لهم قياس على تحريم بيع لبن الآدمية.
إذاً: الصحيح: أنه يجوز بيع لبن الآدمية كما تجوز الإجارة عليه، بل إن الحنفية أنفسهم الذين حرموا بيع لبن الآدمية يقيسون مسائل البيع على الإجارة، ويقيسون الإجارة على البيع؛ لأن كلاً منهما عقد معاوضة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل بكسوة المرضعة والإنفاق عليها وبذل المال لقاء الحليب الذي أخذ، فكما أنه تجوز الإجارة عليه كذلك أيضاً يجوز بيعه، وعلى هذا فإننا نفرق في مسألة اللبن التي ذكرها المصنف: وأنه إذا خرج من الضرع وعلم قدره جاز بيعه، ولا حرج ولا بأس بذلك.
وقوله: (منفردين).
أي: أن يبيعهما منفردين، وبشرط: ألاَّ يكونا قد خرجا وانفصلا عن البدن، أمّا لو خرجا وانفصلا وعلم قدرهما جاز، إذاً: عندنا شرطان: الشرط الأول: أن يبيع اللبن في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة منفصلاً عن الذات، أي: غير تابع للأم التي هي صاحبة اللبن.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون قد علم قدره إذا بان وانفصل.
ففي كلتا الحالتين لا يجوز البيع.
يبقى
Q لو أنه بيع اللبن مع الأم؟ فإنه يجوز؛ لأنه هنا تابع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ولذلك قالوا: التابع تابع، ألا ترى ثمرة البستان إذا لم يبدو صلاحها لو بعت الرقبة والذوات -وهي النخل- جاز لك أن تبيع الثمرة تابعةً للأصل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبِّرت فثمرتها للبائع، إلاّ أن يشترطها المبتاع)، فأجاز البيع ورخص فيه قبل بدو الصلاح؛ لأن مرحلة التأبير -كما سيأتي إن شاء الله في مسائل النخيل- إنما هي قبل بدو الصلاح، فدلَّ هذا على جواز بيع الشيء تبعاً.
وكذلك الحمل في البطن، فلو بعت ناقة وهي عشَراء جاز البيع، لكن أن تبيع الجنين منفصلاً لا يجوز؛ لأنك إذا بعت الرقبة بما فيها فهو تابع لها، فهذا نماءٌ متصلٌ بالمبيع كما لو بعته سميناً بلحم وافر ونعمة سابغة جاز البيع، كذلك إذا بعت الناقة وولدها في بطنها؛ لكن أن تبيع ولدها منفصلاً عنها لا يجوز؛ لأنك إذا بعته كذلك تحققت الجهالة، والأصل عندنا: أن بيوع الغرر لا تجوز، وهذا يؤكد سماحة الشرع، وأن الإسلام كما أنه رحمة في تخفيف التشريع، كذلك هو رحمة في الاحتياط للمشتري في حقه، فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم على شيء مجهول، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يدفع ماله على وجه لا يضمن فيه حقه.