قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه].
وهذا هو الشرط الخامس، أي: يشترط في صحة البيع أن تبيع الشيء المقدور على تسليمه، وهذا مبني على نفس الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فإذا باعه شيئاً لا يقدر على تسليمه، فإنه قد يعجز عن الإمساك به أو عن وجوده، فيكون أخذ المال حينئذٍ من أكل المال بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وأيضاً: لو أنه باعه شيئاً غير مقدور على تسليمه فقد فوت مصلحة البيع؛ لأن مقصودك من شراء هذا الشيء أن تستفيد منه، فإذا باعك على وجه لا تتمكن من أخذه واستلامه فمعنى ذلك أنه فوت مقصودك من البيع بالكلية.
ويحرم بيع الشيء الذي لا يقدر على تسليمه بإجماع العلماء رحمهم الله، ولهذا أمثلة: فقال رحمه الله: [فلا يصحّ بيع آبقٍ وشارد].
الفاء للتفريع، وهذا مفرع على الشرط، فإذا ثبت أنه لا يصحُّ البيع لشيء لا يقدر على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق، وهذا في العبيد والإماء فإذا شرد العبد أو شردت الأمة فإنه لا يصح بيعه وبيعها إلاّ لمن يقدر على إمساكه وإمساكها، فإذا كان قادراً على إمساكه أو الإمساك بها فإنه حينئذٍ تفوت علة التحريم، وأصبح كأنه مقدورٌ على تسليمه، لكن إذا كان الشيء لا يقدر على تسليمه فإنه لا يصح البيع ولا يجوز؛ لأنه من الغرر.
وأمّا (الشارد) فإنه يكون في الحيوانات مثل: أن يشرد البعير، أو الشاة، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه قد يعجز عن الإمساك به واللحوق به، وحينئذٍ يكون البائع قد أكل المال بالباطل، وهذا كمثال على الأشياء القديمة، وفي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً باعك شيئاً لا تتمكن من إمساكه ولا تتمكن من أخذه والانتفاع به فإنه يعتبر في حكم بيع الآبق، وفي حكم بيع الشارد، ويكون أخذه للمال من باب أكل المال بالباطل، فمثلاً: لو كانت السيارة ضائعة، فقال له: يا فلان! سيارتك الضائعة أنا أشتريها منك بعشرة آلاف ريال، فإن وجدتها فأعطنيها، وإن لم تجدها فالعشرة آلاف ملك لك، فهذا لا يجوز.
وقد يقول قائل: المشتري رضي بذلك وقال: العشرة آلاف ملك لك، نقول: رضا المشتري لا عبرة به، ولذلك لو أن شخصاً استدان من شخص مائة ألف ريال وقال: أردها مائة وعشرة، وأنا راضٍ أن أدفع العشرة آلاف فوق المائة، نقول: رضاك وجوده وعدمه سواء؛ لأن هذا النوع حرمه الله عز وجل، فلو قال: أنا راضٍ بالسيارة وجدتها أو لم أجدها، نقول: هذا سفه، وإنما لم يقبل رضاه لأنه يخاطر، وإذا خاطر كأنه يتصرف في ماله تصرف غير الرشيد وهو السفيه، فيحجر عليه الشرع ويقول له: رضاك وجوده وعدمه سواء فلا عبرة به، ولا يوجب الحكم بِحلِّ هذا النوع من المعاملات المحرمة.
قال رحمه الله: [وطيرٍ في هواء].
كما قلنا أنه يقع في الحمام الذي يطير ويفر من الإنسان، فإنه لا يصح بيعه إذا كان طائراً في الهواء؛ لكن لو أمكنه أن يمسكه فإنه يصح البيع.
قال: [وسمكٍ في ماء].
فلو قال له: هذا السمك الذي في البحيرة ملكٌ لي، أبيعك منه سمكة بعشرة، لا يصح لأمرين: الأمر الأول: الجهالة.
الأمر الثاني: عدم القدرة على الإمساك به.
لكن لو كان السمك في بركة، أو مستنقع محدود، أو كان في مكان يمكن الإمساك به وأخذه فلا بأس، فمثلاً: الآن بعض باعة السمك يجعل السمك في أحواض، حتى يكون طازجاً في متناول الإنسان، فيكون حديث العهد بحياته فيكون لحمه ألذ وأطيب، ويقول: إذا أردت -مثلاً- من نوع كذا فبعشرة أو من نوع كذا فبعشرين، فهذا جائز؛ لأنه يمكنك أن تمسك به، وإن لم تستطع إمساكه فبإمكانه هو أن يمسك به، فيجوز، لماذا؟ لأن العلة القدرة على التسليم، فلما كان الذي في الحوض مقدوراً على تسليمه واستلامه جاز بيعه وصح، ولما كان أصل العلة هي عدم القدرة فإنه لا يؤثر كونه في حوض مقدور على تسليمه أو مقدور على الإمساك به.
قال رحمه الله: [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادرٍ على أخذه].
المغصوب مثل الشيء الضائع، فإنه لو جاء شخص وأخذ سيارتك بالقوة وغصبها منك، أو أخذ أرضك بالقوة واغتصبها منك، أو أخذ كتابك أو قلمك أو شيئاً لك بالقوة، وأنت لا تستطيع أن تأخذ هذا الشيء منه ولا أن تسترده، فلا يحلُّ لك أن تبيعه؛ لأن الخسارة والبلاء نزل بك، فلا يجوز أن تكون أنانياً شحيحاً تلقي بالبلاء على غيرك، فحينئذٍ تصبر، كما لو نزل بالإنسان مرض أو سقم فإنه يصبر على هذا البلاء، فكما أنه يُبلى في نفسه يُبلى في ماله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فيسعك الصبر، أمّا أن تحمل هذا البلاء على أخيك المسلم، ولو كان راضياً بسفهه، فإنه لا يصحُّ هذا، إلاّ إذا كان الشيء المغصوب يريد أن يشتريه مَنْ غَصبه، فلو قال الغاصب: هذه مائة ألف لقاء أرضك، فيصحّ البيع بشرط: أن تكون راضياً به، أمّا لو كنت غير راضٍ فحينئذٍ يعتبر من أكل المال بالباطل، ويعتبر ظالماً لك في أخذه وانتزاعه منك بالقوة، وأما إذا وجد شخص يقدر على أخذه من الغاصب فمثلاً: أخذ رجلٌ منك سيارة وأنت لا تستطيع أن تأخذها، وهناك رجلٌ قادر على أخذها منه، فقال لك: بعنيها وخلِّ بيني وبينه، فقلت له: أبيعكها بعشرة آلاف، صحَّ البيع وجاز؛ لأن العلة في المنع هي عدم القدرة وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.