قال رحمه الله: (ويشترط التراضي) أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت.
والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري.
وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع.
وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد)، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة.
وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه.
وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه.
فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به)، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ.
فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام.
فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله.