Q ما صحة هذا التعريف للبيع، وهو: أنه مبادلة دين أو عين أو منفعة بمثل أحدهما على سبيل التأبيد غير رباً وقرض، هل هو سالم من النقص؟ أثابكم الله.
صلى الله عليه وسلم حقيقة تعاريف البيوع مختلفة، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والتعريفات لها ضوابط، وقد تكلم العلماء على الطريقة التي تعرَّف بها الأشياء، وتعبت أذهان أهل العلم في سبيل ذلك، ومن قرأ كتب السلف وكتب الأئمة يعرف مقدار ما بذله هؤلاء العلماء الذين لا يستطيع أحد أن يكافئهم إلا الله جل جلاله، ويعلم علم اليقين أنه لا أعظم من هذه الشريعة، ولن يستطيع أن يبين للناس ما فيه مصالح دينهم ودنياهم وآخرتهم إلا هذا الشرع الحكيم المتقن؛ لأنه إذا كان الأصل صحيحاً فما انبنى على صحيح فهو صحيح، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:109]، فالعلم مؤسس على تقوى من الله ورضوان، تلك القلوب التي صقلتها روحانية الكتاب والسنة، وسهرت عيونهم وكلّت أجسادهم ونحلت في طاعة الله ومرضاته، وكانوا يتعبون للتمحيص والتدقيق، حتى ذكر عن بعضهم أنه ربما أراد النوم من شدة العناء والتعب، فيتذكر الحكمة ويتذكر الفائدة فيضيء مصباحه لأجل أن يكتبها لمن بعده، حتى يكتب الله له ثوابها ويعظم الله له أجرها، فهذه التعاريف لم تأت من فراغ، ننظر إلى تعريف يذكره عالم له قدم راسخة في العلم، ثم يبقى القرن والقرنين والثلاثة والأربعة، بل قد تستمر أحد عشر قرناً ككتب المتقدمين، وخاصة القرون المفضلة، وهي تمر على أجيال تلو أجيال وهي تشرح وتنقح وتوضح، ولذلك لما قادت هذه الشريعة الأمة وقادت العالم من المحيط إلى المحيط لم يعجز الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عن قضية أو نازلة، فتتقلب جميع النظم وما يستقر على وجه الأرض من التشريعات إلا تشريع الإسلام، وكلمة الله سبحانه وتعالى تامة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] فهي صدق وهي عدل {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
فهذه التعاريف لا يستهان بها، فينبغي لطالب العلم ألا يحقّر من هذه الأشياء؛ لأن هذ االفقه موزون وبدقة، فمثلاً: لما تأتي إلى علم السيارات تجدهم يبحثون أدق شيء في السيارة ويفتخرون بهذا، وقد تجد أبناء الإسلام يشيدون بهذه المعارف الدنيوية ويتحدثون بها، ويقولون: وجدنا من يدرس الهندسة والكيمياء ويفعل ويفعل، ويدقق وينقح ويفصل، ولو نظروا إلى تراث السلف وعلموا ما في بطون هذه الكتب وهذه الكنوز مما فيه سعادة الدنيا بأسرها وليست الأمة وحدها، لعجبوا وما انتهوا من العجب، واعجب فما تنفك من عجائب.
فلا يستهان بهذه العلوم وهذه الأمور التي يذكرها العلماء، والفقه إذا أردت أن تشعر بقيمته فادخل إلى عمقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ومعنى ذلك: أنه دقة في الفهم وغوص في الأعماق، ولذلك تجد النص ينتزع منه أكثر من دليل وأكثر من حكم وأكثر من مسألة، ففي آية المائدة يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (اجتمع لها علماء من فاس -وكانت زاخرة بأهل العلم- فاستخرجوا منها ثمانمائة مسألة) هذه آية واحدة، لكنها من كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وتراث السلف هذا ينبغي أن يعتنى به، وأن يحاول الإنسان أن يعتني به بعيداً عن الغلو، فلا يعتقد أن هذه النصوص وحي، وإنما يمحص ويدقق ويرجع إلى الأصول والأدلة، حتى يجد لذة هذا الفقه وحلاوته ويعرف ما الذي قدمه له هؤلاء العلماء والأئمة، ومن ذلك مسائل التعاريف.
فتعاريف البيوع كما ذكر الإمام الزركشي رحمه الله في شرحه: إن جميع التعاريف لم تخل من نظر ومن اعتراضات، ولذلك تجد الحنفية يقولون: البيع مبادلة المال بالمال بالتراضي.
والمالكية يقولون: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، بمكايسة أحد عوضين، غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه.
هذا بالنسبة لتعريف ابن عرفة رحمه الله في الحدود.
وتجد الشافعية يقولون: معاوضة المال بالمال تمليكاً.
وتجد الحنابلة يقولون: تملكاً وتمليكاً.
كتعريف الشافعية.
وكل هذه التعاريف شبه متقاربة، لما قال: مبادلة المال بالمال، أولاً قال: مبادلة المال، فمعنى ذلك: أنه يدخل عقد النكاح وعقد الإجارة وعقد البيع وعقد الشركات؛ لأنك تدفع نصف الشركة وغيره يدفع نصف الشركة، وعقد المضاربة، والهدية، فعندما يعطيك ترد عليه بهدية أحسن منها، وهذه تسمى هبة العوض، التي كانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أتى العلماء بقيد: فقالوا: مبادلة المال بالمال.
فلما قالوا (بالمال)، خرج مبادلة المال بالبُضع، الذي هو النكاح، وخرج مبادلة المال بالمنفعة وهي السكنى أو ركوب الدابة أو الإجارة، وخرج مبادلة المال بالمال لا للتمليك كالشركات، هذا بالنسبة للشافعية والحنفية والحنابلة.
لكن المالكية قالوا: (عقد معاوضة على غير منافع) والمعاوضة عام، فأرادوا أن يخرجوا الإجارة، فقالوا: (على غير منافع) ثم أرادوا أن يخرجوا النكاح فقالوا: (ولا متعة لذة) كذلك أرادوا أن يخرجوا الشركة والمضاربة فقالوا: (ذو مكايسة)، أي: بالمخاطرة؛ لأن العقود منها ما فيه خطر، ومنها ما فيه الرفق، ومنها ما يجمع ما بين الرفق والخطر، أي: أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما كان ضرراً محضاً أو غبناً محضاً.
ما كان رفقاً محضاً.
ما كان جمعاً للأمرين.
فالغبن المحض: مثل البيع والإجارة، كأن يقول لك: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فتقول: لا، بتسعة آلاف بثمانية آلاف، كأن هناك ألفاً تريد أن تضع غبنها عليه، وهو يريد أن يضع غبنها عليك، أو تقول: أجرني دارك بألف، يقول: لا، بألف ومائتين، أو تقول: بعني هذه الشاة بستمائة، يقول: لا، بستمائة وخمسين بسبعمائة.
إذاً فيه شيء من الغبن المحض، فكل منهم يريد أن يغبن صاحبه بالنسبة لعقد البيع وعقد الإجارة.
أما الرفق المحض: كما لو جاءك وأعطاك ساعة هدية، فتذكرت أن من صنع إليك معروفاً تكافئه، فاشتريت له قلماً، هذه معاوضة، والهدية نوعان: - هدية يعطيها من أجل أن تعطيه أكثر، كأن يأتيك إنسان فقير ويقول لك: هذا القلم هدية مني لك، فهذا معناه أنه إنسان فقير يريد أن يلفت نظرك إليه، فتعطيه أكثر من هذه الهدية، فهذه يسمونها: هبة الثواب، وكانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تنقص من مكانة صاحبها، وفيها نوع من السؤال، فجعل الله فقر نبيه صلى الله عليه وسلم إليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، أي: لا تفعل المنة لكي تأخذ ما هو أكثر، وتمتن على الناس بالهدية تريد ما هو أكثر.
فالشاهد أن هذا معاوضة، يعطيك وتعطيه، ولكنه يراد به الرفق المحض، ولا يراد به الغبن.
- هناك عقود جامعة بينهما، كالشركات: كأن تعطي عشرة آلاف ويعطي عشرة آلاف، فتجتمعون في شركة وتكونونها، فأنت تريد أن تربح ماله وهو يريد أن يربح مالك، لكن تقول له: الربح بيننا بالأثلاث، ثلثان لي وثلث لك، يقول: لا، الثلثان لي والثلث لك، وقد يقول: ثلاثة أرباع لي وربع لك، إذاً فيه غبن وفيه رفق.
كذلك عقد المضاربة الذي يسمى (الضراب): كأن تعطي العامل عشرة آلاف وتقول له: اضرب بها في الأرض والربح بيني وبينك، يقول: لا، لي الثلثان ولك الثلث، أو تقول أنت: لي الثلثان ولك الثلث لي ثلاثة أرباع ولك الربع، وقس على هذا.
فلما يقول المالكي: (ذو مكايسة)، فمعنى ذلك ذو غبن وضرر، أو يحتاج إلى حذر، فأخرج عقد الشركة والمضاربة والهبة إلخ.
إذاً تجد في تعاريف العلماء الألفاظ مختلفة لكن المضامين شبه متفقة؛ لأن الكل يريد نتيجة واحدة ويريد مضموناً واحداً، فهي وإن اختلفت عباراتها ولكنها غالباً تدور حول معنى متقارب.
والله تعالى أعلم.