بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع].
هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب المتعلقة بالمعاملات، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله في كتب الفقه والحديث أن يبدءوا بما ورد في أحكام العبادات، ثم بعد ذلك يذكرون أحكام المعاملات.
والمصنف رحمه الله ابتدأ بكتب العبادات، فبين أحكام الطهارة والصلاة وأحكام الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك ذكر كتاب الجهاد، ثم قال رحمه الله: [كتاب البيع]، فكأن المصنف أراد أن يربط بين المعاملات المالية وبين العبادات؛ والسبب في ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن ينتقل الإنسان من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة؛ لأن كتاب البيع فيه جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأموال وبالدنيا، من بيع وشراء وأخذ وعطاء، ولكن كتب العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج تتعلق بما بين العبد وربه في غالب صورها، ولهذا احتاج المصنف رحمه الله أن يربط بين العبادات والمعاملات، فلا ينقلك من الصلاة والزكاة والصيام والحج إلى البيع مباشرة، فمن فقهه وعلمه أدخل كتاب الجهاد؛ لأن كتاب الجهاد معاملة بين الخالق والمخلوق ومعاملة كذلك بين المخلوق والمخلوق، فجعل كتاب الجهاد وسطاً بين العبادة المحضة والمعاملة المحضة؛ لأن الفقيه وطالب العلم لو أنه بعد انتهائه من العبادات دخل في المعاملات لكان هناك شيء من التضاد، بعد أن كان في باب مليء بالنصوص إلى باب مليء بالاجتهادات والقياس على النصوص؛ ولذلك ربط رحمه الله بينهما بكتاب الجهاد.
البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكمها، وفصل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم جملةً من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلَّ أن يمر على الإنسان يوم من الأيام إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر مما تعم به البلوى، أي: أن الناس قلَّ أن يسلموا من هذا التعامل، والله تعالى أمرنا وشرع لنا نوعاً معيناً من البيع نتعامل به، وحرَّم علينا نوعاً آخر، فينبغي للمسلم أن يعلم ما الذي أحل الله فيفعله، وما الذي حرم الله عليه فيجتنبه.
ومن هنا كان لزاماً أن تقرأ أحكام البيع، فهي من العلوم التي ينبغي لطلاب العلم أن يتعلموها إذا لم يوجد من يقوم بالكفاية، خاصةً في هذا الزمان الذي قلَّ أن تجد من يتقن مسائل المعاملات، وبالأخص مسائل المعاملات المالية، فقد تجده يتقن أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الحج، وقد يبتلى بطعمة الحرام والتعامل بالبيع المحرم وهو لا يدري، فقد يكون من خيار عباد الله؛ ولكن الجهل يوقعه في الحرام؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، ولطالب العلم أن يسد الثغر لأمته؛ فيرعى هذا الأمر العظيم، ويتعلم هذا الباب، حتى يحسن إلى الناس ببيان الأحكام الشرعية.
والله جل وعلا جبل الناس على حب المال والافتتان به وزين لهم ذلك، فإذا كان الناس لا يجدون من يبين لهم الأحكام انهمكوا في الحرام، وأصبح الحلال ما حل بأيديهم، والحرام ما بعد؛ وعندها لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً إلا ما أشربوا من هواهم، فتنتشر بينهم المعاملات التي يظنون جوازها؛ لأنها سائدة ومعروفة والناس ألفتها، وقد تكون فيها أرباح تغر الناس حتى يألفوها، فيظنون أنه الحلال، وما هو إلا الحرام الذي يعذَّب الإنسان بطعمته، خاصة إذا فرَّط بمعرفة حكمه.
يقول أهل العلم: يتعين على الإنسان تعلم مسائل البيع إذا كان يتعاطى التجارة ويبيع ويشتري، فيجب عليه أن يتعلم ما الذي أحلَّ الله له بيعه فيبيعه، وما الذي حرم الله عليه بيعه فيجتنبه ويتقيه، ومن هنا كان لزاماً على طلاب العلم أن ينتبهوا لهذه المسائل، فهو باب مهم جداً، وكان العلماء رحمهم الله إذا أرادوا أن يعرفوا فقه الرجل نظروا إليه في باب المعاملات، وإن كان باب العبادات له شأنه ومنزلته، ولكنهم يتميزون ويظهر الفرق فيما بينهم في باب المعاملات؛ لأنه يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التركيز، يبرز فيه فقه الفقيه، وفضل الله عز وجل على عباده، والله فضل بين العلماء، ورفع بعضهم على بعض درجات، فإذا أحب طالب العلم أن يعظم أجره في هذا العلم فليتقن مثل هذه المسائل ومثل هذه الأبواب، وليتعب وليجتهد وليصبر على عنائها؛ لأنها قد تمل وقد تحدث عنده شيئاً من السآمة، لكنه يصبر ويصابر، ويعلم ما أعد الله من الثواب لمن أحسن وجد في طاعته ومرضاته، خاصة فيما يعظم فيه النفع للمسلمين.
والعلماء رحمهم الله ذكروا أن البيع مما يحتاج المسلم إلى معرفته، ويتعين عليه ولو في آحاد الصور، فإذا كنت تتعامل بنوع من أنواع البيع، فيجب عليك أن تسأل عن هذا النوع، فهذا أقل ما يجب عليك، فلو فرضنا أن الإنسان يتبايع بالذهب والفضة، فعليه أن يسأل ما هي أحكام صرف الذهب والفضة، وما هي أحكام بيع الذهب والفضة، وكيف يمكنه أن يتقن تلك الأحكام، أو على الأقل عليه أن يلم بأصولها التي ينبني عليها بابها.