بهذا نكون قد انتهينا من أحكام أهل الذمة، وهي في مجملها تدل على أمور مهمة: أولها: لطف الله عز وجل ورحمته بعباده في هذا الدين الذي جعله الله رحمة للعالمين، حتى إن الكفار يعيشون بين المسلمين لهم أمان ولهم عهد، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على خيانتهم وخَتْلهم وأذيتهم.
ولا يجوز لهم أيضاً أن يقدموا على المساس بحرمة الإسلام وحرمة المسلمين.
الأمر الثاني: أن هذا العهد الذي بينهم وبين المسلمين مقيد بأهل الذمة من أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، فلا يشمل المشركين وعبَّاد الوثن، ولذلك يقول الله في كتابه: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] فاستثنى الله الذين عاهدهم الرسول عند المسجد الحرام، وأما غيرهم من أهل الشرك والأوثان فلا، فإن الله ساق هذا السياق للذم والاستبعاد، وعلى هذا فليس للمشركين من عباد الوثن هذا العهد الخاص والذمة الخاصة، وإنما هي خاصة بأهل الكتاب كما ذكرنا.
الأمر الثالث: إن هذا العهد، وهذا العقد، وهذه الذمة مبنية على أصول وضوابط شرعية تدل على حكمة الله، وعلمه بخلقه، وهي أن أهل الذمة يعيشون بين المسلمين ويلتزمون بأمور وبحقوق وواجبات تفرض عليهم.
وكذلك يلتزم لهم المسلمون بحقوق وواجبات يؤدونها إليهم، فلا يُظْلَم كلُّ ذي حق في حقه، فعلى المسلمين أن يقوموا بحفظهم، وحقن دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فلا يُقتلون، ولا تغتصب أموالُهم، ولا تسرق، وكذلك أيضاً لا تستباح بدون وجه حق، ويكون لأعراضهم ما لأعراض المسلمين من الحرمة، فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، ولا أن يؤذيهم فيها.
وهم يلتزمون بدفع الجزية التي تفرض عليهم في زمانها بالقدر المفروض على الصفة التي ذكرناها، والتفصيل الذي ذكرناه.
فإذا التزموا بها، والتزم المسلمون بما عليهم على الصورة التي ذكرناها، يكون الإسلام قد حقق الأمرين: الرحمة.
ووضعُها في موضعها.
فهي رحمة؛ ولكنها وُضِعت في موضعها، وليس من الحكمة أن يأتي الإنسان بالرحمة ويضعها في غير موضعها؛ لأن هذا هو شأن الضعيف المتخاذل، وإنما توضع الرحمة لمن يستحقها، ويكون ذلك في الحدود والضوابط الشرعية التي ذكرناها.
ومن الخطأ ما يفهمه البعض ممن يكتب عن حال المسلمين أو في تاريخ المسلمين، عما كانوا عليه مع أهل الذمة، فيحاول أن يجعل الأمور كلها نوعاً من المسامحة ونوعاً من التقارب ونوعاً من الرضا، وهذا ليس بصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى حكم من فوق سبع سماوات بأنه لا بد من تميز المسلم عن الكافر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحفظ حق دينِه، وأن يراعي هذا التميز الذي فرضه الله عليهم من فوق سبع سماوات، وليست هذه العقود التي بين المسلمين وأهل الذمة مشعرةً باتحاد الأديان، من جهة أنها كالشيء الواحد، فهي وإن كانت في أصلها من أصل واحد؛ لكنها متفاوتة ومتباينة، حتى في العقائد والأصول، فتجد عقيدة التثليث لا يمكن أن تجتمع مع عقيدة التوحيد، فيأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى المؤمنون أن يجتمع من يقول: (هو الله أحد)، ومن يقول: (إنه ثالث ثلاثة)، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] فالله عز وجل حكم بتباين هذه العقائد، وعدم اتفاقها.
فينبغي للمسلم ألاَّ يفهم من هذه الأمور أن معناها أنه وهو والكافر كالشيء الواحد، بل إنها أمور مقيَّدة، ومقنَّنة، ومحدَّدة، وقُصِد منها مصالح الإسلام أولاً وأخيراً، وقُصِد مِن عيش هؤلاء بين المسلمين أن يرضوا بالإسلام، وأن يألفوا الإسلام، لعل الله أن يهديهم من ضلالتهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه.