المسائل النادرة والموقف منها

قال رحمه الله تعالى: [وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع]: (رُب): للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير ولكن الأصل فيها التقليل.

وقوله: [ربما حذفت] الحذف يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف الكلام لعدم وجود الفائدة منه.

قوله: [مسائل نادرة الوقوع].

النادر: ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه.

والمسائل الفقهية النادرة إما نادرة في زماننا كثيرة في زمانهم، وإما نادرة في زمانهم كثيرة في زمان غيرهم.

وإما نادرة في زمانهم وزماننا ولم تحدث بعد.

واعلم رحمك الله أن لمز العلماء بالمسائل النادرة من الخطأ بمكان إلا في مسائل مخصوصة فقط يردها علماء جهابذة لهم علم وإدراك، ويعرفون أن هذه المسألة لا طائل تحتها كما يقولون: (مسألة طويلة الذيل قليلة النيل).

فقولهم: (طويلة الذيل) أي: الكلام فيها كثير، و (قليلة النيل) أي: قليلة الفائدة والثمرة، هذا معنى، فإذا قال عالم جهبذ: هذه المسألة طويلة الذيل قليلة النيل قبلنا قوله، أما أن يأتي إنسان ضعيف البضاعة في العلم ليس عنده بلاء الفقيه، وما يتعرض له من مسائل ومعضلات فينكر عليهم ذكرهم هذه المسائل ويشنع عليهم فلا.

والعلماء رحمهم الله ذكروا المسائل النادرة لأسباب، منها: أولاً: بيان قواعد تفرعت عليها هذه المسائل النادرة، ولذلك تجدهم يقولون: ويتفرع على هذا مسألة كذا وكذا، وتكون نادرة الوقوع، وإنما ذكر العلماء هذه المسألة النادرة الوقوع تفريعاً على هذه القاعدة؛ لأنه علم ولا يجوز كتمان العلم.

حتى إنهم من ورعهم رحمة الله عليهم ذكروا أقوالاً ضعيفة لا يعول عليها، ويقولون: ذكرناها من باب عدم كتمان العلم، وينبهون على ضعفها.

كل ذلك كان عندهم من الورع، فإنهم كانوا يخافون أن يموت أحدهم وفي قلبه هذه المسألة، فذكر المسائل النادرة غالباً ما يكون في الفروع، فتكون متفرعة إما على حكم أو على دليل أو قاعدة.

وقد طرأت الآن مسائل جديدة عصرية وخُرِّجَت على تلك المسائل النادرة، حتى إنني كنت في بحث الجراحة الطبية تمر بي مسائل غريبة، وأجتمع مع بعض الأطباء وبعض طلاب العلم، وتكون هناك مسائل فعلاً ذكرها العلماء وفرعوها ويكون من السهولة بمكان تخريج المسائل الجديدة عليها؛ فرحمة الله على تلك الأفهام وعلى تلك العقول التي نصحت للأمة.

فليكن كل إنسان على علم بأنهم -كما نحسبهم ولا نزكيهم على الله تعالى- ما كانوا يحبون الشهرة، ولا تحسبن أنه من العبث والفراغ والترف الفكري ذكر هذه المسألة في كتابه، حاشا وكلا، فهم أرفع -والله- بكثير من هذا كله، فلا ينبغي التشنيع في المسائل النادرة، فإن كان زمانك في غنىً عنها فليأتين زمان يحتاج إليها.

ثانياً: قد تذكر المسائل النادرة للتفريع، والفوائد التي يستفاد منها: أنه في بعض الأحيان تكون المسألة في باب الطهارة وهي من غرائب المسائل، وتكون مفرعة عليها مسألة في باب الأطعمة أو في باب النكاح، فمن ميزة فقه المتقدمين -وهذا معروف بالاستقراء والتتبع- أن الفقه عندهم كالبناء مبني بعضه على بعض، وأدلته التي يستدلون بها قل أن تجد واحداً منهم يتناقض فيثبتها في مكان وينقضها في آخره، بل تجده إذا قال مثلاً: أعتبر الدليل الفلاني فيعتبره في العبادات والمعاملات، وإذا قال: أعتبر القاعدة أو الأصل الفلاني يعتبره في العبادات والمعاملات، بينما تجد اليوم الشخص متناقضاً يبني على قاعدة ثم يهدمها.

فمن ميزات ذكر المسائل الفريدة أنه قد يحتاج إلى تخريجها في مسائل هي مذكورة في العبادة، لكنها تتفرع على مسائل في المعاملة، فقد يتفرع -مثلاً- على جلد الكلب هل هو نجس أو طاهر.

ذكرت هذه المسألة الغريبة في جلد الكلب؛ لأنه يتفرع عليها جواز بيع حذاء صنع من هذا الجلد، فإنه يحكم بطهارته ثم يحكم بجواز بيعه، فيخرج من باب تحريم النجاسات على القول بنجاسة عين الكلب.

ومن ذلك قولهم: لو حمل إنسان نجاسة في جيبه؛ إذ ما كان يتصور في الزمن القديم أن إنساناً عاقلاً يضع فضلته من بول أو غائط في إناء ثم يصلي بها، والآن ما أكثر من في المستشفيات من تجرى لهم الجراحة، ويوضع لهم الكيس المعروف الذي فيه فضلة الإنسان.

فرحمة الله على أولئك العلماء، ولكن لا ينبغي لنا التشنيع، فإن وجدنا فائدة من المسألة فالحمد لله، وإن لم تجد فَعِلم زادك الله تعالى إياه.

فعلى العموم: ينبغي التأدب مع أهل العلم، وأقول هذا لأنه بلغ ببعض طلاب العلم أن يشنع حتى في بعض المسائل الموجودة، ولذلك أقول: لا يشنع في الفقه مسألة إلا إذا شنع عالم وإمام ضابط يعلم أن هذه المسألة لا فائدة فيها فكن له متبعاً، أما أنت بفهمك مع ضعفك في مادة الفقه والعلم فلا تستعجل بالكلام على المسائل.

فالمسائل النادرة هي: المسائل التي يقل وقوعها، وهي عند العلماء على ضربين: ضرب منها يقل وقوعه ويندر، وليس فيه ذاك البلاء الذي يحتاج فيه لها، ومسائل يندر وقوعها لكن تعظم بلواها فيحتاج إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، كمسائل في السهو وهي نادرة، ولكن قد يصلي الرجل بآلاف ويسهو فتعظم بلواه.

قال رحمه الله: [وزدت ما على مثله يعتمد].

أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل على مثلها يعتمد، إما أنَّ (يعتمد) بمعنى أنها مسائل محررة لا خلاف فيها في المذهب، فمراده اعتماد في المذهب، أو يعني أنها مسائل تكثر لها الحاجة ويكثر لها الطلب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015