Q هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين في الحضر بدون عذر ولا خوف؟ وما الفرق بين العذر والحاجة؟
صلى الله عليه وسلم هذه المسألة مفرعة على حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وفيه يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في غير مطر ولا مرض ولا سفر -ولما سئل عن ذلك؟ قال ابن عباس -: أراد أن لا يحرج أمَّته) وقد وقع ذلك في خطبة ابن عباس كما في صحيح مسلم: (أنه خطب إبَّان إمارته على الكوفة لـ علي رضي الله عنه، وأطال الخطبة في وقت صلاة الظهر، فقام له أعرابي وقال: الصلاة، فلم يجبه ابن عباس، ثم استمر في خطبته، فقام الرجل وقال: الصلاة، ثم استمر ابن عباس في خطبته، فقام الرجل، فقال له ابن عباس: أتعلمنا بالصلاة لا أمَّ لك؟ جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين ... ) إلى آخر الحديث.
هذا الحديث للعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: منهم من أخذ بظاهره، وقال: دل هذا الحديث على جواز أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولو لم يكن هناك مطر ولا مرض ولا سفر، وهذا القول هو مذهب بعض أصحاب الحديث -رحمة الله عليهم- وبعض أهل الظاهر.
والقول الثاني: أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وإنما المراد به الجمع الصوري، وهذا واضح من سياق الحديث؛ لأن الرجل لا زال يكرر في أول الوقت؛ لأنه عَهِد من ابن عباس أنه يصليها في أول وقتها، وما زال ابن عباس يستمر في خطبته، فلما قارب وقت الظهر من الانتهاء أقام لصلاة الظهر، فصلاها، فبمجرد انتهائه دخل وقت العصر، فأقام لها فصلى العصر، ثم صلى الاثنتين في صورة الجمع، والحقيقة أن كل صلاة في موضعها.
يقول جمهور العلماء: لو أخذنا بهذا الحديث على ظاهره، لألغينا دلالة الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، وقال في آية المواقيت: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، فحددها بالوقت، فلو قيل: إن الظهر يُجمع مع العصر، ولا حرج أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر، لما كان للظهر وقت محدد، إنما يكون الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة؛ لأنه جمع من غير عذر، فيجوز للناس أن يؤخروا الظهر والعصر، ولا حرج أن يوقعوا الظهر في آخر وقت العصر، وهكذا يجوز لهم أن يوقعوا المغرب في وقت العشاء، فنُلغي دلالة الكتاب في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
وأما دلالة السنة: فهي في قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصلِّ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ما بين هذين الوقتين وقت).
إذاً: لا يستقيم حمل الحديث على ظاهره، والقاعدة في الأصول: (أنه لو تردد الحديث بين وجهين: وجهٍ يوافق النصوص من الكتاب والسنة، ووجهٍ يخالف، وجب صرفه إلى الوجه الذي يوافق، لا إلى الوجه الذي يخالف).
وبناءً على ذلك: الصحيح أن الصلاة لها ثلاثة أحوال: الأولى: إيقاعُها في وقتها.
الثانية: جمعُها صورةً ويكون إيقاعها أيضاً في وقتها.
الثالثة: الجمع الحقيقي.
فاكتملت القسمة العقلية على ثلاثة أقسام: الأول: أن توقع الصلاتين كلاً في وقتها.
الثاني: أن توقع الصلاة في غير وقتها مجموعة مع الأولى أو مع الثانية، الذي هو جمع التقديم أو التأخير.
الثالث: أن توقع الصلاة على صورة الجمع، والحقيقة أنها في وقتها.
وبناءً على ذلك يَرِد إشكالٌ: ليس هناك دليل يقوى على اعتبار الجمع الحقيقي إلا قول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته).
وهذا ليس فيه دليل، فإن من تأمل هذه العبارة يجد أن معناها: أن الناس وخاصة في بعض الأزمنة كشدة الحر، أو يحتاج الخطيب -مثلاً- أن يخطب في حادثة وقعت، فقام الإمام ينبه الناس على هذه الحادثة فأطال في خطبته، واحتاج إلى بيان وتفصيل، فأخذ وقتَ الظهر إلى آخره ثم صلى بهم الظهر، ودخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، فيكون قد أخذ بقول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته) أي: أنهم لو قاموا بعد انتهائهم من صلاة الظهر سيرجعون إلى بيوتهم، ثم يعودون مرة ثانية إلى صلاة العصر، فأسقط الحرج بالجمع بين الصلاتين صورةً، في خروج واحد دون ذهاب وإياب متكررين، وهذا واضح جلي، ولذلك فمذهب جماهير العلماء على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأن المراد به الجمع الصوري.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.