قال المصنف: [والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل] المبيت ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المبيت بمزدلفة، والأصل في وجوبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة ورخص للضعفة من أهله ومن الناس، والقاعدة: أن الرخص لا تكون إلا في الواجبات؛ لأنها استباحة لمحظور، وعلى هذا قالوا: لما أذن صلوات الله وسلامه عليه للضعفة من أهله، وأذن للضعفة من الناس، دل على أن الأصل أن المسلم ملزم بالمبيت بمزدلفة، والجمهور على وجوبه، وعلى هذا فإنه إذا أخلّ بهذا المبيت ولم يبت بمزدلفة، فإنه يجب عليه الدم كسائر الواجبات.
القسم الثاني: المبيت بمنى، والمبيت بمنى يكون ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن لم يتعجل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي التشريق من أجل السقاية)، قال العلماء: لما رخص عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب، دل على أن الأصل أنه يجب على من حج البيت أن يبيت بمنى، والمبيت بمنى واجب وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله، والقاعدة: أن الرخصة لا تكون إلا على وجه يستباح به المحظور، فدل على أن الأصل وجوب المبيت، وأن مبيته بغير منى محظور، لكنه جاز للعباس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حكم العباس بن عبد المطلب كل من تعلقت به مصالح الحج ومصالح الحجاج، فمن يكون قائماً على شئون الحجاج وتتعلق به مصالح ومنافع للحجاج عامة، كمصالح علاجهم أو مصالح سقايتهم أو نحو ذلك من المصالح العامة، فإنه يجوز له أن يترخص بالمبيت خارج منى، إن كانت هذه المصلحة التي يقوم بها لعموم الحجاج تستلزم منه ذلك، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة، والرعاة كما لا يخفى تتعلق بهم مصلحة عامة للحجاج؛ وذلك أنهم يحتاجون إلى البهائم؛ وذلك لأداء الواجب والفرض على الحاج من الإهداء للبيت، خاصة في نسك التمتع والقران، فقال العلماء رحمهم الله: كل من تعلقت به مصلحة عامة للحجاج، فإنه يرخص له بالمبيت خارج منى، هذا إذا توقفت المصلحة والقيام بها على ذلك الترخيص.
قوله: (إلى بعد نصف الليل) قد تقدم بيانه والكلام عليه، وذكرنا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه عليه الصلاة والسلام أنه بات بالمزدلفة، وإنما رخص للناس الذين هم بحاجة للرخصة -من النساء وكبار السن والأطفال- أن يدفعوا بعد منتصف الليل لوجود ضرورة وحاجة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله) فظاهر السنة أنه يبيت بمزدلفة، ولو قلنا للناس: إن المبيت يتأقت إلى منتصف الليل، فمعنى ذلك: أنه سيخرج القوي الجلد لكي يؤذي ضعفة المسلمين، ولذلك قلنا: إن السنة على أنه يبقى، ولا يترخص إلا من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع، أما قياس غير المضطر وغير المحتاج وغير الضعيف على الضعفة والمحتاجين، فإن هذا يؤدي إلى مضايقة المحتاجين والضعفة، ويؤدي إلى مخالفة مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يمضي الحطمة والضعفة ويسبقوا الناس، ويتمكنوا من الرمي في وقته، قبل أن يدهمهم الناس، وعلى هذا فلو قيل: إنما يجب أن يبقى إلى منتصف الليل وللقوي الجلد أن يمضي، فإن هذا يؤدي إلى مزاحمتهم وأذيتهم للضعفة الذين قصد الشرع التخفيف عليهم، واستنباط كل معنىً يؤدي أو يعود إلى إلغاء المقصود الشرعي من أصل الرخصة يعتبر لاغياً؛ لأننا إذا قلنا: إن إذنه عليه الصلاة والسلام للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، يدل على أن الواجب أن يمسك ولو جزءاً بعد منتصف الليل ثم يدفع، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء معنى الرخصة؛ لأن معنى الرخصة التخفيف على الضعفة، ولو أننا ألزمنا الناس بالأصل والسنة في وجوب المبيت عليهم بمزدلفة، فإن هذا يمكن الضعفة من أن يتمتعوا برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرخصة التي رخص الله لهم.