قال رحمه الله: [وتباح معونته].
المباح: هو ما استوى طرفاه، أي: لا يؤمر به ولا يُنهى عنه.
قوله: (تباح معونته) يعني: تجوز معونة المتوضئ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنتُ أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وغلام نحوي أحمل إداوةً وعَنَزَة)، فهذا يدل على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصةً إذا كانوا من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين.
فأما إذا كانوا من الوالدين فإن خدمتهم عبادة وقربة لله جل وعلا، وتجب عند الحاجة، وأما إذا كانوا من أهل العلم والفضل خاصةً إذا كانوا من كبار السن، فإن خدمتهم قربة.
وأما إذا كان صغير السن وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصِد بذلك وجهُ الله لا رياءً ولا سمعةً؛ لكن الأفضل لطالب العلم أن لا يمكن الناس من خدمته في بداية طلبه للعلم، أو عند صغر سنه؛ لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة، بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكبر وقربهم من الموت يبعدهم من قصد هذا في الناس، مع ما لهم من حق؛ بسبب كِبَر السن.
فلذلك يستحب بعض العلماء للإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أن يتورع عن خدمة الناس له، حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وأبلغ في طاعته لله جل وعلا.
وأُثِر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن صحبتَ رفقة في السفر فلا تكن صائماً، إنك إن أخبرتهم بصيامك، قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم، احملوا الصائم، حتى يذهب أجرك)، أي: لا يزالون يكرمونك ويكرمونك حتى يذهب أجرك؛ بما يكون منهم من إكرام.
ولذلك فالأكمل للإنسان والأفضل له أن يتورع عن ذلك.
وقد عهدنا علماء أجلاء رحمة الله عليهم بلغوا من العلم شأواً عظيماً، كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن يوجد فيها المخلص، وإن وُجد المخلص قد يوجد المغالي، وكثير من البدع والأهواء والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذ الدين طريقة لإهانة عباد الله جل وعلا، فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له سبحانه وتعالى.
وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً نفيساً في الفوائد حيث قال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين، حتى يكونوا جريئين على المعاصي؛ بسبب اغترارهم بصحبة الصالحين وخدمتهم لهم، فتجد الواحد من هؤلاء يجرؤ على حدود الله، ولا يُصْلِح من حاله، وتصبح صحبتُه للعالِم صحبةً شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه ويستفيد من ورعه ومن تقواه لا تجد لذلك أثراً، حتى -والعياذ بالله- يفْسُدَ عليه دينُه.
إذاً ينبغي أن يحمل الإنسان نفسَه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله جلَّ وعَلا، وقد خرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المسجد فخرج معه أصحابه يشيعونه، فقال: (ما لكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك، فأردنا أن نشيعك.
قال: إليكم عني، إنها فتنة للتابع والمتبوع).
هذا ابن مسعود في عصر الخيرية وزمان الخيرية.
(إنها فتنة للتابع) أي: أن الإنسان إذا صار مع العالِم دون أن يسأله ودون أن يستفيد من علمه، فذلك فتنة له.
(وفتنة للمتبوع) أي: أن العالم ربما دخله غرور برؤية مَن حوله.
ولذلك فالأسلم والأكمل أن الإنسان يتورَّع، وإذا نظر الله إليك -وقد حباك العلم، وحباك الفضل- لا تهين عباده، ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً، كمُل أجرُك عند الله جل وعلا، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
لكن لا يعني هذا: التحريم والمنع؛ ولكن نقول: إن الإنسان إذا خشي الفتنة لنفسه أو لمن معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورع، وهذه المسألة أحب أن أنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَّخَن، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت راءٍ؛ أدباً، وخُلقاً، واستفادةً من العالم، وكثرةَ سؤالٍ ومُدارسةٍ له؛ ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة، حتى تنزل منزلتُه، فيصبح كأن العَالِمَ شيء معتاد بالنسبة له، فيخرج عن حد الأدب، ولربما يأتي وقت -وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النفوس- يجرؤ فيه على أن يفتي بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة.
فإذا صحبتَ أهل العلم فلا حرج أن تخدمهم وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم والفائدة، وليست للمظاهر وللأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.
إذاً: معنى قوله رحمه الله: (تباح معونته) أي: يجوز أن يعاونه الغير على وضوئه، فيصب الوضوء له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح: (أنه دخل الشعب فبال، ثم صب عليه المغيرة رضي الله عنه وأرضاه الوضوء) صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن المغيرة وأرضاه.