وقوله: [ويحرم صيد المدينة].
لما فرغ رحمه الله من أحكام الصيد بمكة، حيث أثبت أنه لا يجوز أن يصاد الصيد بمكة، وعلى هذا إذا صاد الصيد بمكة كما ذكر لك حكمه حكم صيد المحرم، فلو قتل بمكة تيس جبل أو مثلاً صاد غزالاً أو صاد حمامة ففيه القضاء الذي ذكرناه كصيد المحرم سواء بسواء ولم يفصل؛ لأنه تقدم التفصيل، لكن هنا بالنسبة لصيد المدينة فإنه لا يجوز، فالمدينة أولاً: محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن عبدك وخليلك قد حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها: اللهم بارك في صاعها ومدها) وفي رواية: (اللهم اجعل مع البركة بركتين! اللهم اجعل مع البركة بركتين)، فبالإجماع فإن البركة في المدينة ضعف البركة في مكة، وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالأرزاق مباركة في مكة، ويجد الإنسان أثر هذه البركة في طعامه ورزقه وقوته، ولكنها في المدينة على الضعف فما في مكة يعتبر في المدينة بالضعف، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا قال بعض السلف بتفضيل المدينة على مكة؛ لأنه دعاء بالبركة عموماً، وقال: إن الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما هو قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس.
وذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل.
واحتج الإمام بتفضيل الموت بالمدينة؛ لأن الله عز وجل اختارها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وجعلوا لها من الفضائل، حتى كانت البركة فيها ضعف ما بمكة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، أن مكة أفضل من المدينة، وهذا أمر واضح جلي، فإن النصوص ظاهرة في تفضيل الله عز وجل لهذا الحرم، وثبت في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله إنك لخير أرض الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، فالشاهد في قوله: (والله إنك لخير أرض الله) يدل على أنها أفضل؛ لأن قوله: (خير أرض الله) كما تقول العرب: فلان خير، أي: أخير، وشر: أشر، فقوله: (خير أرض الله) يدل دلالة واضحة على أنها أفضل، ولذلك جعلت الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف، وبمسجد المدينة بألف وهذا يدل على أن مكة أفضل.
وعليه فإن حرمة المدينة تشابه حرمة مكة، فلا يجوز قتل الصيد داخل حدود حرم المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح عن المدينة: (إنها حرم آمن)، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه لما سأله أبو جحيفة: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة) هذا ثابت في الصحيح، وقوله: (لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قيل: لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة، وقيل: إن قوله: (صرفاً ولا عدلاً) أي: إشارة إلى أنه لا يقبل منه شيء، نسأل الله السلامة والعافية، وإذا لم يقبل العمل من العامل فهذا أمر عظيم؛ لأنه دليل على هلاكه، فهو مهما عمل فإن عمله لا يعود عليه بخير؛ لأن العبرة بالقبول.
فالمقصود: أنه لعظيم حرمة الحرم صرف العبد عن القبول بالإحداث في مدينة حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فحرمة المدينة تقتضي عدم جواز قتل الصيد، وعدم جواز تنفيره، ولذلك لما رأى سعد رضي الله عنه الغلام من بني مخزوم يصيد في المدينة أخذ سلاحه الذي يصيد به، فجاء مواليه وقالوا: رد للغلام آلته، قال: لا والله، لا أرد سلباً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في صحيحه، فهذا من باب العقوبة، ولذلك من وجد يصيد في حدود الحرم فإنه يجوز أخذ آلته التي يصيد بها وتملك، وهذا من باب العقوبة التعزيرية، أي: التعزير بالمال.
فالمقصود: أن حرم المدينة يقتضي عدم جواز الصيد فيه، وعدم جواز الحدث والبدعة داخل المدينة، وكذلك حرم مكة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} [الحج:25]، بل إن حرم مكة أشد؛ لأنه جعله لمجرد الإرادة وتوجه العزيمة للشيء.