وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل].
والمحصر: الممنوع، الحصر: أصله المنع، والمحصر: هو الذي يمنع من البيت كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، أهل بالعمرة فمنع من الوصول إلى البيت، فإذا أحصر بعدو فإنه ينحر هديه ثم يتحلل ولا شيء عليه، أي: ليس عليه قضاء عمرته أو حجة، وهذا على أصح قولي العلماء، فإذا منع بعدو من الوصول إلى البيت لا يقال بأنه ينحر مباشرة وإنما ينظر فيه، يقال: هل لك طريق غير هذا الطريق يمكن أن تصل به إلى البيت؟ قال: نعم.
نقول: أنت لست بمحصر، ويلزمك أن تذهب إلى الطريق البديل، ولا يحكم بإحصاره إلا إذا منع بالكلية فليس له إلا طريق واحد أو طريقان، وهذان الطريقان لا يمكن أن يصل معهما إلى البيت.
كذلك أيضاً يتفرع عليه أن المحصر الأصل في أنه يتحلل قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فجعل للمحصر مخرجاً من إتمام حجه، وهذا يعتبر بمثابة الرخصة جعلها الله عز وجل للعزيمة في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
فالأصل عندنا في الشرع أن من نوى الحج أو من نوى العمرة وتلبس بالنسك فإنه يجب عليه أن يتم هذا النسك، فإذا منع من الوصول إلى البيت وحيل بينه وبين البيت بأي حائل يمنع من وصوله إلى البيت فإنه حينئذٍ يعدل إلى هديه، وإذا نحر الهدي تحلل ولا شيء عليه، فلا نطالبه بقضاء عمرته ولا نطالبه بقضاء حجه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.
وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل].
قياساً على دم المتعة، وذهب المالكية والحنفية إلى أنه إذا لم يجد الهدي لا شيء عليه، وهذا هو الصحيح؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الصيام بدلاً في هدي التمتع، ولم يجعله في هدي الإحصار فقال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولم يذكر البدل، لكن أصحاب القول الأول -كما يختاره المصنف- لهم حجة، قالوا: إن الله عز وجل ذكر حكم الإحصار، فقال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ثم قال بعدها: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] قالوا: ((فما استيسر من الهدي)) فنص على الهدي مع أن السياق واحد، فذكر الإحصار ثم أتبعه بالتمتع فكأن الحكم واحد، فكأنه ذكره في المتأخر حتى لا يحصل التكرار بعد ذكره في المتقدم، ولذلك قال بعدها: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] ولذلك لا يقع إحصار لمن كان من حاضري المسجد الحرام، ولكن الصحيح أن المقصود بقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] المراد به: من كان متمتعاً دون من كان محصراً؛ لأن قوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] يدل على أنه قد حج، وأن الآية المراد بها المتمتع، والمحصر لم يحج بعد، فلا يستقيم أن تجعل هذه الآية بدلاً عما تقدم، ولذلك يقوى أن آية وجوب الهدي تختص بالمحصر ولا بدل عن الهدي، فإذا لم يجد الهدي فلا شيء عليه، كأن يكون ليس عنده مال فيذبح الهدي أو لم يجد الهدي حتى يذبحه؛ فإنه حينئذٍ يتحلل ولا شيء عليه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.