إن لم يكن للصيد مثل، كأن يكون -مثلاً- عصفوراً، فالعصفور حينما تنظر إليه لا يعادل شاة ولا بقرة ولا بعيراً، فهذا مما لا مثل له من بهيمة الأنعام، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] فإذا كان لا مثل له من بهيمة الأنعام فيقولون: ينقطع الخيار الأول -وهو بهيمة الأنعام- وحينئذٍ إذا كان قد قتل عصفوراً فنقول للحكمين: قدرا قيمة العصفور.
فيقدران أن قيمة العصفور عشرة ريالات، فنقول له: أنت بالخيارين، إما أن تطعم بالعشرة وتشتري بها، فلو فرضنا أن العشرة تعادل صاعاً، فنقول له حينئذٍ: خذ الصاع وأطعم المساكين إما ربعاً أو نصفاً، وإن قلنا: النصف؛ فحينئذٍ كم مسكيناً يكون عليه أن يطعم؟ إذا كان الصاع الواحد بعشرة ريالات، فيكون عليه أن يطعم مسكيناً؛ لأن قيمة العصفور عشرة ريالات، والعشرة الريالات قيمة للصاع الواحد، فإن كان عليه نصف صاع لكل مسكين فمعناه أنه يطعم مسكينين، وإن قلنا: ربع صاع، فيطعم حينئذٍ أربعة مساكين؛ لأن لكل مسكين ربع صاع، فعلى هذا يقال له: إما أن تصوم يومين على أن الواجب النصف، أو تصوم أربعة أيام على أن الواجب الربع.
هذا بالنسبة إذا لم يوجد للمقتول من صيد البر مثلٌ من بهيمة الأنعام، وعليه قالوا: إن قتل الصيد إما أن يكون بمثل فيخير بين ثلاثة أشياء: المثل، أو عدله من الطعام، أو عدله من الصيام.
وأما إذا لم يوجد له مثل فإنه ينتقل إلى الإطعام أو عدل الإطعام من الصيام، هذا بالنسبة لجزاء الصيد.
وقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان].
(بين مثل إن كان) أي: وجد له مثل.
وقوله: [أو تقويمه بدراهم إن كانت].
(أو تقويمه) تقويم المثل على أصح أقوال العلماء؛ لأن هناك قولاً يقول: يقوم الصيد.
والصحيح: أن الذي يقوم هو المثل؛ لأن المثل هو الذي وجب، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] وهناك فرق بين أن يقوم الصيد وبين أن يقوم بهيمة الأنعام، فلو فرضنا أنه: قَتل حمار وحش، فإذا عدلته ببقرة فإنك تجد قيمة البقرة -مثلاً- خمسمائة ريال، لكن حمار الوحش يكون غالياً، فقد تصل بقرة الوحش -مثلاً- إلى سبعمائة أو ثمانمائة ريال، فحينئذٍ يكون هناك فرق بين قيمة المثل وقيمة الصيد، ولذلك اختلف العلماء هل العبرة بقيمة الصيد أو العبرة بقيمة المثل؟ والصحيح: أن العبرة بقيمة المثل؛ لأن الله عز وجل أوجب عليه أن يخرج المثل الذي هو عدل ما قتل من بهيمة الأنعام، فلما وجب عليه أن يخرج العدل وهو من بهيمة الأنعام صارت ذمته مشغولة بالعدل من بهيمة الأنعام لا بالصيد؛ لأن هذا العدل وقع بدلاً عنه، فحينئذٍ يكون بدلاً عن ذلك الذي وجب عليه، فيُلزم بالنظر إلى قيمة المثلي من بهيمة الأنعام لا إلى قيمة الصيد المقتول.
وقوله: [أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً].
وهذا يرجع في التقويم إلى قول أهل الخبرة، والأصل في الشريعة الإسلامية في القضاء، وفي مثل هذه المسائل في فصل الخصومات أنه إذا احتيج إلى التقديرات أنه يرجع إلى أهل الخبرة والنظر، فلا يقبل تقدير كل أحد، وإنما يسأل أهل الخبرة كم قيمة هذا العدل أو المثل من بهيمة الأنعام؟ فمثلاً: لو فرضنا أن المحرم يرى أن الشاة تساوي ثلاثمائة ريال، لكن أهل الخبرة قالوا: قيمتها أربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، فلا يلتفت إلى تقديره هو، وإنما ينظر إلى قول أهل الخبرة؛ لأنه يرجع في كل فن وعلم إلى أهله، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة: (أن الشرع يأخذ بشهادة كل قوم فيما يختص بهم) فإذا شهد الشهود العدول أهل كل صنعة بصنعتهم اعتدَّ بشهادتهم وأخذ بها.
وقوله: [فيطعم كل مسكين مداً].
المُد: وهو ربع الصاع، بمقدار ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا على هذه المسألة في الزكاة، فهناك ربع الصاع الذي يسمى بالمد النبوي، وهو أصغر المكاييل النبوية، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، وهناك الصاع الذي يعادل أربعة أمداد، وهناك المد الكبير وهو موجود في زماننا، والمد الكبير يعادل ثلاثة آصع، فأصبح المد الكبير يعادل من المد الصغير اثني عشر مداً صغيراً، وهذا موجود إلى زماننا، ويقال للصغير: المد النبوي، ويقال للمتوسط: الصاع النبوي، وهو الذي كان يغتسل به صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: [أو يصوم عن كل مد يوماً].
سواء أوقع الصيام متتابعاً أو متفرقاً.
وقوله: [وبما لا مثل له بين إطعام وصيام].
ويخير فيما لا مثل له بين إطعام وصيام؛ لأنه سقط المثلي لتعذره؛ ولأنه لا مثل له، فالله أوجب المثل إن وجد، فأما إذا كان عصفوراً ولا مثل له فحينئذٍ لا يلزمه إلا الإطعام وعدل الإطعام من الصيام.