قال رحمه الله: [وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً].
أي: هذا هو المحظور السادس وهو قتل الصيد، وهذا المحظور أجمع العلماء رحمهم الله عليه؛ لأن الله نص عليه في كتابه، وكذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، وقال سبحانه وتعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فنص سبحانه على أن المحرم لا يصيد.
والصيد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صيد بر، وإما أن يكون صيد بحر، وأصل الصيد الحيوان المتوحش، ولذلك كان الحيوان في الأصل ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً، فالحيوان المستأنس كالإبل والبقر والغنم، ومن الطيور كالدجاج والحمام إذا كان في منزل الإنسان، فهذه توصف بكونها مستأنسة؛ لأنها تأنس بالإنسان، وتألفه ويألفها، ولا تفر منه إذا جاءها، فهذا النوع من الحيوان يأمرك الشرع إذا جئت لتأكله أن تذكيه الذكاة الشرعية، إما بالذبح وإما بالنحر، أما الذبح فكالشاة والغنم، وأما النحر فكالإبل تطعنها في وهدتها وتنحرها، وما يكون جامعاً للأمرين فكالبقر يصلح فيه الذبح ويصلح فيه النحر، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فهذا يسمى بالمستأنس، وذكاته ذكاة المستأنس.
هناك نوع ثانٍ: وهو المتوحش، ولا يمكن لك أن تصيبه إلا باحتيال أو مغافصة ومغالبة وقهر، كأن تغلبه حتى تمسك به، أو تجري وراءه فتمسكه، أو تطلق عليه السلاح فتعقره أو تقتله، فهذا يسمى بالصيد، وهو الحيوان الذي لا يأنس للإنسان ويفر عنه.
ويشمل الصيد الظباء والوعول والغزلان وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل ونحوها مما خلق الله من الدواب التي يصيدها الإنسان ويحل له أكلها، وهذه من قسم المتوحش، وهو الصيد الذي أحله الله.
وكما ذكرنا في المستأنس أن فيه من الطير كالحمام والدجاج ونحوها من الطيور، ويكون أيضاً من الدواب كالإبل والبقر والغنم، فكذلك المتوحش في الصيد يكون من الدواب على وجه الأرض، كالظباء والوعول والغزلان والريم ونحوها، ويكون من الطيور فيشمل الحباري ويشمل الطيور التي ليست بيد الإنسان فهذه كلها توصف بكونها متوحشة وصيداً، لكن بشرط أن لا تكون من الطيور من الجوارح ذوات المخلب، فلا يجوز أكل الصقر ولا الباز ولا الشاهين ولا الباشق ولا النسر ولا العقاب ونحوها، فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين: الصيد ويكون للمتوحش، وغير الصيد الذي يكون من المستأنسات.
وهناك نوع ثالث ليس من هذا ولا هذا، وهو الذي حرم الله من السباع العادية ذات الناب، كالأسد والنمر ونحوه، وذي المخلب من الطير كما ذكرنا في البواشق والنسور والصقور، فهذه كلها لا يجوز أكلها كما سيأتينا إن شاء الله في باب الذبائح.
فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين، والله عز وجل حرم على المكلف إذا كان مُحْرِماً أن يصيد المتوحش منها، فلا يجوز له أن يصيده سواء كان برياً أو كان من الطيور؛ لأنه لا يجوز له إذا كان محرماً أن يصيده ولا أن يصاد له، ومحل التحريم إذا كان برياً، والعلماء يصفون ما كان برياً مما ذكرنا من الريم والغزلان والظباء والوعول، ويصفون الطيور أيضاً بأنها برية وأنها صيد بر؛ لأنها تأوي في الليل إلى أكنانها، ولا تستطيع أن تنفك عن الإيواء إلى أكنانها، فتأخذ حكم صيد البر.
هناك نوع ثانٍ: وهو صيد البحر، والمراد بذلك السمك والحوت، وهناك خلاف في غير السمك والحوت هل يدخل في صيد البحر، فيحل لنا جميع ما في البحر إلا ما كان ساماً أو عرف أنه يضر بالإنسان، أم أن الحكم خاص فقط بالسمك والحوت؟ أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور: أن الله أحل لنا ما في البحر، فيشمل جميع ما في البحر، إلا إذا كان ضاراً أو مستخبثاً، فهذا النوع من الصيد وهو صيد البحر حلال بإجماع العلماء لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] ثم قال بعد ذلك: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة:96] عطفاً على صيد البحر، فدل على أن صيد البحر في الأصل حلال، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فالمحرم يجوز له أن يصيد صيد البحر، ولكن لا يجوز له أن يصيد صيد البر.
إذا عرفنا هذه المقدمة، وأن الحيوان منه ما هو بري ومنه ما هو بحري، فيبقى السؤال عما جمع بين البر والبحر، وهو الذي يسمى بالبرمائي، هل يحرم على المحرم أن يصيده، أو لا يحرم؟ والبرمائي ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يمكن له العيش والتكاثر والتوالد غالباً إلا في الماء كالضفادع ونحوها، فهذا يأخذ حكم ما في الماء، ويكون صيده صيد بحر، ومنها ما يكون تكاثره وغالب وجدانه في البر كالسلحفاة ونحوها فتأخذ حكم ما في البر، ويكون الحكم في حلها وحرمتها راجعاً إلى هذا التفصيل.
إذا تبين هذا فصيد البحر جائز بالإجماع؛ لنص الآية، أما صيد البر فلا يجوز لك إذا أحرمت أن تصيده، ولا أن تعين على صيده كأن تقول لرجل: انظر إلى هذه الحمامة أو هذا الطائر، أو أدرك الحمامة، أو صد الحمامة، ولا يجوز أن تشير إلى مكان الصيد، كأرنب ونحو ذلك، فتقول له: هو في هذا الموضع، بل يجب عليك أن تسكت حتى ولو رأيته أمامك.
ولا يجوز أن يصاد من أجلك؛ فلو صاد إنسان صيد بر وقصدك به وأنت محرم فلا يحل لك، ولا يحل أيضاً هذا الصيد الذي صيد للمحرم، وتكون تذكيته لاغية فيعتبر كالميتة، لا يجوز أكله ولا بيعه، فإذا صاد المحرم أو أعان على الصيد أو صيد من أجله فإن هذا الصيد يعتبر في حكم الميتة، لا يجوز أكله لا للمحرم ولا للحلال، فلو قلنا: إن المحرم لا يجوز له، كذلك أيضاً غيره؛ لأنه في هذه الحالة ينتقل إلى حكم الميتة على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله سيأتينا بيانه إن شاء الله في باب الأطعمة.
كذلك أيضاً: لا يصاد للمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه حمار وحش فرده عليه -لم يقبل الهدية، وقد كان بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يرد الهدية- فلما ردها على الصعب تغيّر وجه الصعب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عليه الصلاة والسلام يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: لكوننا حرماً وأنت صدته من أجلنا فإن هذا اقتضى عدم حله لنا، فإذا قيل: ما الدليل على التفصيل بين كونه يصاد له، أو لا يصاد له؟
صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد مرة وهو محرم، ولم يقبله مرة وهو محرم، فقبله في قضية أبي قتادة وهي ثابتة في الصحيحين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد عمرة الحديبية خرج من المدينة، فبلغه أنه ربما جاءت بعض الأرسال والبعوث من المشركين تريد أن تؤذيه وهو محرم بالعمرة، فأرسل سرية لـ أبي قتادة وقال: (خذوا ساحل البحر)، فأرسلها من الجهة الغربية للمدينة على جهة الساحل، فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، وهذا يدل على أن من جاء من المدينة وقصد جهة رابغ أو جهة ينبع، أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة؛ لأن أبا قتادة أخر إحرامه.
فأخذوا ساحل البحر، وقال: كونوا على ساحل البحر حتى نلتقي، وإذا حدث من العدو شيء يكون النبي صلى الله عليه وسلم على علم به، فلما أخذوا ساحل البحر كانوا كلهم محرمين إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فسنح لهم حمار الوحش فجلس أصحابه ينظر بعضهم إلى بعض، ولم يخبره أحد بأن هناك صيداً، فالتفت أبو قتادة فإذا هو بحمار الوحش، فركب فرسه فسقط سهمه، فسألهم أن يناولوه فلم يعنه أحد ولم يناوله، فنزل عن فرسه وأخذه ثم عقر منها وصاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما صاد هذا الصيد أكلوا، فلما أكلوا قالوا: أنأكل ونحن محرمون؟ فاشتبهوا، فتوقفوا عن الأكل حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: هل أحد منكم أعانه؟ قالوا: لا، قال: هل بقي عندكم منه شيء؟ فأعطي عليه الصلاة والسلام من فضلته وقال: كلوا)، وأذن لهم أن يأكلوا.
فدل على أنه لا يعان الحلال من المحرم على الصيد، لا بإشارة، ولا بسلاح ونحوه، وأن المحرم يبقى ساكتاً مهما رأى، ولا يشير إليه بإشارة فعلية ولا ينبهه بالقول، فإذا نبهه بالقول حرم عليه الصيد، وإذا صاد المحرم فيحرم عليه أن يأكل الصيد أو ينتفع بما في الصيد، فلا يجوز له أن يأكل بيض الصيد؛ لأن هذا الصيد حرام عليه، والفرع تابع لأصله، ولا يجوز له أن ينتفع بفرعه إذا كان قد صاده هو، وإنما يرسل هذا الصيد حتى يأخذه على وجه شرعي معتبر، وحينئذٍ يحل الانتفاع به.
قوله: (برياً أصلاً) أي: يكون الصيد برياً أصلاً، فخرج البرمائي، فإن البرمائي ليس ببري أصلاً، ولو كان أكثر عيشه في البر فإنه لا يوصف بكونه برياً أصلاً.
وعلى هذا: خرج صيد البحر؛ لأنه ليس ببري أصلاً، وخرج ما جمع بين وصف البري والبحري معاً.