وبسبب قرب هذه المواقيت أخطأ بعض المعاصرين فجعل جدة ميقاتاً؛ لأنه سَامَت بها يلملم وسَامَت بها السيل الكبير فقال: إن المسافة واحدة فمن نزل بجدة فإنه يحرم منها؛ وهذا خطأ فاحش، فليست جدة بميقات لأن جدة كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئِل ابن عباس عن قصر الصلاة إلى الجموم قال: (لا.
ولكن إلى جدة وعسفان والطائف)، فجدة ليست بميقات ولذلك لم يسمِّها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً.
والسبب الذي جعل بعض المتأخرين يقول إن جدة ميقات كما هو موجود عند بعض متأخري الحنفية هو وَهَمٌ وَقَع في بعض كتب المتقدمين من الحنفية، فإنهم ذكروا أن من قدم من البحر فميقاته من طرف جدة، وذلك إذا سامَت البحر قدر ما يَبْعُد عن مكة مثل بُعد الجحفة، وهم يريدون بذلك أن يُحرِم وهو في داخل البحر، مقدِّراً مسافة تساوي في بعدها الجحفة.
فإذا كان قادماً من إفريقيا عن طريق البحر الأحمر، فحينئذٍ يُقدِّر المسافة التي هي في مثل بُعْد الجحفة من مكة، فيزيد عن بُعد جدة ما فَضَل من الفرق، فلو كان -مثلاً- بُعْد جدة يصل إلى خمسة وسبعين كيلو، وكانت الجحفة تَبْعُد مائتي كيلو؛ فتَحسِب مائة وخمسة وعشرين كيلو في البحر حتى تُسَامِت الجحفة، وهذا هو الذي عُنِي، وهو من باب الرأي والاجتهاد.
فهذا معنى قولهم: غربي جدة -في بعض كتب الحنفية- أي: من داخل البحر في الغرب، بحيث يقدِّر مسافة قبل وصول الباخرة والسفينة إلى الميقات بقدر بُعْدَ المراحل الموجودة في الجحفة، وهذا يسمونه ميقات السَّمْت.
أما القول بأن جدة ميقات فهو قول يخالف النصوص، فليست جدة بذاتها ميقاتاً.
وعلى ذلك الفتوى قديماً وحديثاً، ولا زال علماؤنا ومشايخنا نسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم يفتون أن جدة ليست بميقات، وهو الذي أدركنا عليه أهل العلم.
وعلى هذا يمكن أن تكون ميقاتاً بالمحاذاة، وذلك إذا كان في عَرْض البحر، وقَدَّر مسافةً تُسَامِت الجحفة؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لمن كان في البحر أن يُسامِت الجُحفة، كأن يأتي ولا يمكنه أن يُسَامِت الجحفة بالعرض، فإذا استطاع أن يسامت جدة مباشرة، مثل أن يأتي من شاطئ مِصر فيُقَدَّر المسافة الموجودة وهو في عَرْض البحر حتى يسامِت البُعْد الموجود في الجحفة عن مكة، فإذا كان بنفس السمت الموجودة فيه الجحفة فحينئذٍ يُحرِم.
على هذا يتخرج أنه لو كانت الطائرة لا تمر بالجحفة، فعليه أن يُقَدِّر المسافة الزمنية التي تقطع بها المسافة المكانية التي يكون بها في حدود المواقيت، أعني ميقات الجحفة، فحينئذٍ له أن يُحرِم.
قال المصنف: [وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق] ولأهل نجد قرن المنازل، وهذا الميقات نَصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُعرَف الآن بالسيل الكبير، فهذا الميقات ميقات أهل نجد، ومن جاء من المشرق كأهل خراسان وبخارى وسمرقند ونحوهم، كل هؤلاء كانوا في القديم يقدُمُون من جهة الشرق ويكون ميقاتهم هذا الميقات، ويكون في حكمها ذات عِرْق.