قوله رحمه الله تعالى: [وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد].
الصلاة تطلق في اللغة على معانٍ، فتأتي بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا يقول الشاعر: إن ابنتي حينما هيَّأت رحلي للسفر قالت: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، أي أنها دعت له بالسلامة، فأجابها بقوله: عليك مثل الذي صليت، أي: عليك مثل الذي دعوت، وهو موضع الشاهد من البيت؛ فإنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء.
ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: إذا أعطوك الزكاة يا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فصل على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن لنائب الإمام الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أعطوها أن يدعوَ بالبركة والخير في أعمالهم، فقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، فالصلاة تطلق بمعنى الدعاء.
وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي أن الله يرحمه، وصلاة الله على العبد رحمته.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفى) أي: ارحمهم، وقيل: (بارك لهم في مالهم)، وهو حديث في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ومنه قول الشاعر: صلى المليك على امرئ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودعته.
فقوله: [وصلى الله] أي: على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، والمراد به الترحم؛ لأن الصلاة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة.
قوله: [وصلى الله وسلم]: جمع المصنف بين الصلاة والسلام، والسلام إما مأخوذ من السلامة من الآفات، وإما أن يراد به التحية.
قال بعض العلماء: قول الإنسان: السلام عليكم.
أي سلمكم الله من الآفات والشرور وهي التحية، ووصفت التحية بكونها تحية؛ لأن الإنسان إذا حيَّا غيره دعا له بما يوجب طول بقائه في الحياة، فإذا قلت: السلام عليكم، فمعنى ذلك: سلمكم الله من الآفات.
وإذا سلم العبد من الآفات طال عمره وبقي زمناً أكثر مما لو أصابته، ولذلك يقولون: السلام من السلامة، وهو اسم من أسماء الله جل وعلا كما في آية الحشر.
فجمع المصنف بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه؛ لأنها من أكمل الصفات.
قال بعض العلماء: أدب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع فيها بين الصلاة والسلام، والدليل على ذلك.
أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فجمع له بين الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والتسليم.
قال رحمه الله تعالى: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد].
قوله: [وعلى آله] الآل تطلق على معنيين: الأول: آل الرجل بمعنى قرابته، قالوا: وأصل آل: أَهْلٌ، وهو قول سيبويه رحمه الله تعالى.
الثاني: تطلق بمعنى الأنصار والأعوان والأتباع وشيعة الإنسان، تقول: آل فلان؛ بمعنى أتباعه، وهذا هو المراد بقول العلماء: وعلى آله، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه الله، واختاره جمع من العلماء، فالمراد بآل النبي صلى الله عليه وسلم الذين يصلى عليهم ويسلم تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم أتباعه في كل زمان ومكان.
لكن قوله: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد] يؤكد غير هذا المعنى، فإن قوله: [ومن تعبد] يدل على أن المراد بالآل هم الأهل؛ لأنه قال بعد ذلك [ومن تعبد]، والمراد به من سار على نهجه عليه الصلاة والسلام، فإذا كان المريد بالآل الأهل، يكون قوله: [ومن تعبد] من باب عطف الشيء على الشيء.
لكن يمكن أن يقال: إن المراد بقوله: [وعلى آله] أي: أتباعه وأنصاره، وقوله: [ومن تعبد] من باب عطف الخاص على العام، أي أنه خص المتعبدين الذين هم أكثر عبادة وصلاحاً.
وهذا من باب التشريف والتكريم؛ لأن العرب تعطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] والروح: جبريل عليه السلام، فقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) يدخل فيهم جبريل، لكنه تعالى لما قال: (والروح) نص على الروح تشريفاً وتكريماً وتنبيهاً على علو مقامه ودرجته.
وقوله: [تعبد] أي: تفعّل العبادة، والتفعّل زيادة، والزيادة في المبنى تدل على زيادة المعنى، والتعبد مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل؛ لأن أصل العبودية: الذلة، فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلل له، أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فأجمع التعاريف لها ما اختاره جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
فهي شاملة لأعمال القلوب كحب الله، وخشية الله، والإيمان به، واعتقاد فضله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فإن هذه كلها من أعمال القلوب الباطنة.
والأقوال كالتسبيح والتهليل والتكبير.
والأفعال كالركوع والسجود والذبح، ونحو ذلك، فالعبادة تشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ويرضاه.
وشرط ما يحبه الله ويرضاه أن يكون مشروعاً، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه، فلا يُعبد بأهواء ولا آراء، ولكن يُعبد بنصوص الكتاب والسنة التي دلت على مشروعية ذلك العمل قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً.
قال رحمه الله تعالى: [أما بعد].
هذه كلمة يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمضمون، فإذا خاطب الإنسان غيره بكلام مكتوب أو مسموع فإن من عادة الناس أنهم يصدرونه بالثناء على الله جل وعلا، وهذه الكلمات التي يصدر بها الكلام توصف بكونها مقدمة.
ثم بعد هذه المقدمة من ثناء العبد على ربه عز وجل، وصلاته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه يشرع في المقصود، أي: الأمر الذي يريد الكلام عنه بالخطابة أو الكتابة.
ولذلك قال بعض العلماء: إن (أما بعد) هي فصل الخطاب، وقد قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] قالوا: بدليل قرنها بالحكمة وفصل الخطاب، أي: الفصل بين مقدمته ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس وتوجيههم، وأن لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي وطائفة من المفسرين رحمهم الله تعالى.
والصحيح أن فصل الخطاب هو القضاء بين الناس في الخصومات والنزاعات، وأن قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] ليس المراد به (أما بعد)، وإنما المراد به -كما قال طائفة من العلماء- معرفة الطريقة التي يفصل بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا اختلفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، فيحتاج إلى فصل، قالوا: فصل الخطاب قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وقيل: من فصل الخطاب أن يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما عجل داود عليه السلام وحكم وقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) عاتبه الله تعالى.
وهذه الكلمة -أي: أما بعد- سنها النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أما بعد: فما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) فكان يقول: (أما بعد) ولذلك كان من السنة أن تقال هذه الجملة.
وقد يكررها بعض المتكلمين فيقول: (أما بعد)، ثم يأتي بكلمة ثم يقول: (ثم أما بعد)، والذي يظهر هو الاقتصار على السنة، بأن يثنى على الله تعالى ويحمده، حتى ينتهي الثناء والحمد ثم يقول: (أما بعد) ويدخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل، والأبلغ في التأسي الاقتصار على الوارد، خاصة في خطب الجمعة ونحوها.