صحة حج من كانت نفقته على غيره

Q من حج مع رفقة قاموا بنفقة حجه، فهل له ذلك إذا كان حجه للفريضة، أم لا بد من الإنفاق من حر ماله أثابكم الله؟

صلى الله عليه وسلم هذا حج غنيمة، ما دام أن الله عزَّ وجلَّ يسر له من ينفق عليه، وهذه رحمة ساقها الله إليه، وإذا جاء المال للإنسان من دون مسألة ومن دون استشراف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عمر المال وأراد عمر أن يمتنع قال: (إذا جاءك من غير مسألة ولا استشراف فخذه وتموَّله) خاصةً إذا كان الذي حج معه له حق عليه، كعمه وخاله وقريبه، أو إنسان أعطاه الله بسطة من المال ويحب طلاب العلم ويكرم العلماء، ولا يقصد بهذا إذلالهم، ولا يريد شيئاً في نفسه من الرياء والفخر، وإنما أراد وجهَ الله ومحبةً لأهل العلم وطلابه، وإكراماً لهم.

أما إذا وجدت عنده أغراض كأن يقصد مثلاً: الرياء والسمعة وأن ينظر الناس إليه، أو أراد أن يهين طلاب العلم بهذه الطريقة، أو أنك إذا حججت معه ربما يذلك ببعض التصرفات، فلا تُهِن العلم الذي في صدرك؛ فإن الله أكرمك بالعلم فلا تهنه، وحقٌ على من أكرمه الله بالعلم أن يكرم العلم، وهذا العلم الذي يرفعك على رءوس الناس في منبرك، وفي درسك، وفي موعظتك، وفي خطبتك، تكرمه كما أكرمك.

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما فحق على أهل العلم وطلاب العلم أن يترفعوا عن مثل هذه الأمور إذا وجدت شائبة، أما إذا لم توجد شائبة وكان الرجل قد عرف بالفضل والصلاح والتقوى، وأوسع الله له في الدنيا، فَأُحِبَّ أن تكون معه؛ تفتي الجاهل وتعلِّمه، وترشد الحائر وتدله، ويكون الخير له ولمن معه من الرفقة، وتكون معونة على البر والتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح).

فإذا وجدت رفقةً صالحة أو أناساً أثرياء وأغنياء فيهم الفضل، فلا بأس أن تذهب معهم، ففي الأغنياء أناس وضع الله عز وجل في غناهم البركة، فتجدهم يكرمون طلاب العلم، ويكرمون العوام، ويكرمون الضعفاء والفقراء، فأمثال هؤلاء الذين عُرِفوا بهذا الفعل وعُرِفوا بإرادة وجه الله عز وجل تُقبل منهم المكرمة، أما إذا وجدت الشبهة فلا.

ومع هذا فإن الأفضل والأكمل دائماً لطالب العلم أن يتقي الله في علمه، وأن يكرم هذا العلم.

وكانوا يقولون: إن من أسباب القبول في العلم الورع، فإذا كان الشخص ورعاً عن أموال الناس قذف الله في قلوب الناس حبه ووُضِع له القبول، ولذلك لا يستشرف إنسان من أهل العلم الدنيا إلا أهانه الله وأذله، ونزع من قلوب العباد القبول فلا تجد لمواعظه تأثيراً؛ لأن أكمل ما يكون العالم إذا كمل يقينه وزرع الله في قلبه عزة النفس، وتعوَّد من بداية طلبه للعلم أن يجعل فقره إلى الله وغناه بالله سبحانه وتعالى، وأحس أنه في نعمة عظيمة، وأنه أوتي شيئاً هو أفضل ما يؤتى، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف من الله جلَّ وعَلا أن يهين هذا العلم الذي في صدره، فإن الله يكرمه كما أكرم هذا العلم، وإذا لقي الله عزَّ وجلَّ لقيه يوم يلقاه مُكْرِماً لدينه ومُعِزّاً له، ويَشْهَد الله له بأنه أراد وجهه وأراد حفظ دينه، وهذا مظنة المثوبة العظيمة من الله جلَّ جلالُه.

وكم قرأنا في تراجم العلماء من السلف الصالح رحمة الله عليهم، أنهم لما تورعوا عن الدنيا ملأ الله قلوبهم بالغنى! وكان الرجل منهم يمشي مرقع الثياب؛ ولكنه أغنى الناس بما قذف الله في قلبه.

وكم من أناس أهانوا العلم! وهذا موجود، فتجده كلما جاءه إنسان يريد أن يعطيه شيئاً من حظ الدنيا، أو تجده دائماً عند أهل المال يطلبهم حظوظ نفسه، فإنك تجده مهاناً مُذَلاً مَقِيتاً، نُزِع من قلوب الناس القبول له.

نسأل الله السلامة والعافية! ونعوذ بوجه الله العظيم من غضبه وسخطه! فإذا فعل العبد بعلمه هذا وأكل به الدنيا مَقَتَه الله عزَّ وجلَّ.

وأهل العلم هم أهل الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83].

ولقد بايع أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئاً، وكان الواحد منهم يسقط سوطُه فلا يسألُ أحداً أن يناوله، بل ينزل من على فرسه ويأخذ سوطه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزة النفس؛ لأن الله شرفهم بعلم الكتاب السنة، فأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن مظنة الخير لطالب العلم أن تجده دائماً عفيفاً عن أموال الناس، عفيفاً عن الدنيا، مستغنياً بالله عزَّ وجلَّ، مع أنه مديون أو فقير؛ لكن لا يمكن أن يهين العلم الذي في صدره، وهو مع ذلك لا يضيع حقوق الناس، وكذلك تجده لا يمكن أن يريق ماء وجه لأحد من أهل الدنيا أبداً، حفظاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو والله ما ضاقت عليه الدنيا إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولا أصبح في ضنك من العيش إلا جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، وهذا موجود ومعروف ومعهود؛ لأنه لا أوفى من الله لعبده! وهذا بالمناسبة يشمل طلاب العلم وغيرهم؛ لكننا نؤكد على طلاب العلم؛ لأنهم أحق، والناس كلما وجدت أهل العلم على ورعٍ واستغناءٍ بالله عزَّ وجلَّ أحبتهم، وأحبت العلم الذي في صدورهم، وأحبت العلم من أفواههم، وشعرت أن هذا العلم يخرج من معدنٍ طيب ونفسٍ كريمة؛ لأن الذي يكرم دين الله عزَّ وجلَّ خليقٌ أن يُكْرَم، وخليقٌ أن يُحَب، ولا يمكن للإنسان أن يسيء ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فوالله ما أرقتَ ماء وجهك لأحد من أهل الدنيا إلا عَظُم عليك أن ترد هذا الماء بعد إراقته؛ ولكن إذا جعلتَ فقرك لله عزَّ وجلَّ صان الله وجهك عن عباده، وصانه عن ذل المسألة، وهذا لا يكون إلا باليقين في الله جلَّ جلالُه.

فإن طلاب العلم وأهل العلم يتأكد عليهم هذا الحق؛ لأنهم عرفوا الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه الغني وأنه الكريم، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فطالب العلم عنده اليقين أنه إن أغناه الله لا يفقره أحد، وأنه إن أفقره الله لا يغنيه أحد.

فإذا أصبح أهل العلم يستشعرون هذه العقيدة، وهم أعلم الناس بالله، وهم أهل خشية الله، وأهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ رفع الله قدرهم بهذا، وصانهم وأجلهم وأكرمهم، وجعل حسن العاقبة لهم، وإذا رأيت الرجل يهين العلم، أو بمجرد ما يطلب العلم يريد أن ينال به حظوظ الدنيا، أو ينال به السمعة والرياء، فإنك لا تجده إلا في فقر وضيعة، حتى إنك تجد عنده الأموال الكثيرة الطائلة، ومع ذلك تجده يزداد كل يوم فقراً إلى فقر نسأل الله السلامة والعافية! هذا الشخص بعد أن أغناه الله وبسط له من رزقه، لا تجده يحمد الله عزَّ وجلَّ من كل قلبه، فيملأ الله عزَّ وجلَّ قلبه فقراً، ويملأ الله عزَّ وجلَّ نفسه شَرَهاً وطمعاً، نسأل الله السلامة والعافية! فالله الله يا طلاب العلم! وكان العلماء والمشايخ كثيراً ما يوصون بهذه؛ لأن هذه ثغرةٌ فساد عظيمة على طالب العلم.

ولا يقتصر الأمر على كون الإنسان يقبل الشيء، بل حتى جلوس الإنسان مع إنسان من أهل الدنيا، من أجل أن يغنيه أو يحسن إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي يفعلها بعض طلاب العلم طلباً للدنيا، فهذا كله مما يضر الإنسان ولا ينفعه: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13].

فالغنى من الله، والفقر من الله وإليه سبحانه.

أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا مَن نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف اختار الله منك قلبك، فهو محل النظر من الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة، ونظره إلى قلبك لما فيه من توحيده والغنى به سبحانه، والافتقار إليه واليقين به سبحانه، فوالله ما ملأتَ هذا القلب بحسن الظن به إلا تلقاك برحمته وفضله ومنَّه وكرمه، ولا نزع عبد من قلبه اليقين بالله والغنى بالله والفقر إلى الله، إلا ملأ الله قلبه فقراً ولو كان من أغنى الناس، ثم لم يبالِ الله به في أي أودية الدنيا هلك.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل فقرنا إليه وغنانا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015