اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه

قال رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه].

هذا أصل عام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أي: من كماله وجلاله وفضله، ومن علو مرتبة الإنسان في الإسلام، وإذا أردت أن ترى المسلم الكامل فانظر إلى الذي يترك ما لا يعنيه، فالله عز وجل كلفك نفسك، وكلفك أن تأمر الناس بالخير وتنهاهم عن الشر؛ استجابة لأمر الله عز وجل، وما وراء ذلك من لمز الناس وأذيتهم، أو الاشتغال بفضول الدنيا فهذا مما لا يعنيك.

ولذلك إذا فَرَّغ الإنسان نفسه لما يعنيه ساد، فهذا الأحنف بن قيس عندما قال له رجل: كيف سدت قومك وأنت قصير، دميم الخلقة؟ وكان الأحنف من سادات العرب ومن أهل الحلم والفضل، فقال كلمة عظيمة في جواب هذا السائل المحتقر له المزدري له في خلقته قال له: بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.

فهذا الأمر -وهو خلقة الله عز وجل- لا تعنيك، وأنت اشتغلت بها مع أنها لا تعنيك، فَسُدتُ قومي حينما تركت الفضول وتركت الاشتغال بالناس وهمزهم ولمزهم واحتقارهم والوقيعة فيهم، فالسيد الذي يتبوأ المنزلة العالية هو الذي يسلم الناس منه.

وإذا سلم الناس منك أحبوك وهابوك، وكلما كنت عفيفاً عن أعراضهم وعن عيوبهم، فإنهم يعفون عن عرضك وعن عيوبك، كما قال الإمام مالك: أعرف أقواماً عندهم عيوب ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس وكشفوها؛ فكشف الله عيوبهم، أي: أوجد الناس لهم عيوباً ليست لهم.

فلذلك على الإنسان ألاّ يشتغل بما لا يعنيه، خاصة الكلام في الناس، وتتبع عثراتهم والوقيعة فيهم، وخاصةً إذا كانت غيبة ونميمة، وأشد ما تكون إذا كانت في العلماء والأئمة وطلاب العلم والفضلاء.

بعض الأحيان يجلس المعتكفون ويقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فلان طوّل بنا، وفلان قصّر، وفلان تلاوته أحسن من فلان، وفلان أفضل من فلان، وليت فلاناً قرأ بكذا ولم يقرأ بكذا، وفلان يخطئ، فهذه أمور من الغيبة يقع الإنسان فيها وهو لا يشعر، وفي الحديث (قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).

فلذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أن الاعتكاف لله لا لأي شيء سواه، فيشتغل بالأمور التي تعنيه، ويترك عنه فضول الحديث.

وقد كان السلف رحمة الله عليهم يخافون من فضول الحديث كخوفهم من الأمور المحرمة؛ خوف الاشتغال بها فتوصلهم إلى الحرام، وينبغي للمسلم أيضاً أن يوطن نفسه على اجتناب فضول الكلام، سواءً كان معتكفاً أو غير معتكف، خاصةً طلاب العلم وأهل الفضل؛ لأن الناس تنظر إليهم على أنهم القدوة، والشاب الملتزم الصالح إذا كان بين أهله وإخوانه وقرابته ينظرون إليه أنه قدوة، فإذا وجدوه يكثر من ذكر الدنيا ومن العقارات والبيع والشراء سقط من أعين الناس واحتقروه وازدروه.

ولذلك يقول العلماء: الأمر في أهل العلم وأهل الفضل آكد، كالأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والعلماء ونحوهم، هؤلاء ينبغي عليهم أن يحفظوا ألسنتهم، وأن يتحفظوا فيما يتكلمون فيه ويسمعونه، فإذا جلس الإنسان في المجلس ووجد فضول الكلام وفضول الأحاديث، اشتغل بما يعنيه من ذكر الله عز وجل والتسبيح والاستغفار، قال أحد الصحابة رضي الله عنه: (كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: أستغفر الله، أستغفر الله) لأنه قدوة، ولأنه كان إماماً في الخير وكان معلماً للخير، فكان إذا جلس استغفر الله، فما كان يشتغل بما لا يعنيه صلوات الله وسلامه عليه، فالمنبغي على الإنسان أن يحرص على هذه الخلة.

فالمعتكف إذا حافظ في هذه العشرة الأيام على أنه لا يشتغل بما لا يعنيه، قد يستمر على هذه الخصلة الكريمة طيلة حياته؛ لأن الاعتكاف مدرسة، فإذا كان وطن نفسه في خلال العشرة الأيام على أن يستجمع قواه فيضغط على نفسه وعلى شهوته، فينضبط في سلوكه وأقواله وأفعاله، فإنه يبقى أثر هذه الطاعة.

ومن دلائل قبول الاعتكاف: أن تجد المعتكف يخرج بخصلة من خصال الخير، بل يخرج بخصال، فإذا تعوّد على أنه معتكف وأنه مراقب في أقواله وأفعاله، فإنه قد يبقى معه هذا الشعور.

يقول العلماء: والمقصود من الاعتكاف أن المعتكف حينما يُلْزَم بمكان، ويستشعر أنه ينبغي أن يستفرغ جميع جهده، يحس كأنه في الدنيا من حيث هو مخلوق ينبغي أن يستفرغ وقته في ذكر الله عز وجل، فمثل هذه المواسم وهذه المواقف تعين الإنسان على أن يضبط شهوته، وأن يضبط نفسه، فلا يسترسل في الكلام وفي ما لا يعنيه.

نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015