Q ما الحكم إذا تعارض صيام التطوع مع بر الوالد، وهل يجوز للوالد منع الابن من صيام النفل شفقة عليه أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم بر الوالدين من أفضل الطاعات وأجل القربات، وقد تتهم الناس إذا نصحوك أو نهوك عن أمر يريدون الخير لك، لأنك ربما اشتبهت في نصيحتهم، ولكن الوالد والوالدة لا يمكن أن تتهمهما في نصيحتهما، ولا في أي أمر يمنعانك أو يأمرانك به؛ لأنهما جبلا على محبة الخير لك، وخلق الله في قلبيهما من الرحمة والحنان والعطف ما يزيل الشبهة والشك والتهمة.
وبناءً على ذلك فإن الوالد قد يمنعك من الصيام شفقة عليك؛ لما يرى من نحول جسمك أو ضعف بدنك، أو خوفاً عليك من أن تمل الطاعة، أو نحو ذلك من المقاصد التي قد يؤجر بحسن نيته فيها.
وعلى هذا إذا وجدت من والديك العزيمة على أن تفطر فأفطر، فإنك تصيب البر، وهو آكد من صيامك؛ لأن صيامك نافلة، وتحصيلك لبر والديك فريضة، فقد دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لما نادت أم جريج العابد جريحاً وهو في الصلاة، فقال: ربي أمي وصلاتي، أي: لست أدري هل أجيب أمي أو أتم صلاتي، فأتم صلاته فدعت عليك.
وقد بوب الإمام النووي رحمه الله: باب إذا دعاه والداه أو أحدهما وهو في النافلة قطعها وأجاب، والسبب في ذلك أن بر الوالدين فرض، والنافلة نافلة ليست بعزيمة، وأحب ما تتقرب به الفريضة، وهي مقدمة على النافلة.
ولو كان البر نافلة لكان التنفل بالبر أفضل من التنفل بالنوافل الأخرى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: الصلاة على وقتها قيل له: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) ولم يفرق فيه بين الفريضة والنافلة، وعلى هذا فإنك تجيب والديك، فإن قال الوالد: لا تصم الإثنين والخميس؛ شفقة عليك وخوفاً على صحتك، فإنك تبره وحينئذٍ يكتب لك أجر الصيام لأنه حبسك عذر البر، ويكتب لك أجر البر، وأنت على خير، وكم من إنسان صرف عن طاعة لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، فما من إنسان يبر والديه في الغالب ما لم يأمر بمعصية إلا كان عاقبته خيراً.
والإنسان قد يغلبه حب الخير فيترك الفريضة بالنافلة، ولا شك أن بر الوالدين غالباً ما يأتي بأحسن العواقب وأفضلها، وقد تصرف عن النافلة بخير أعظم من ذلك، وقد يعلم الله عز وجل أنك لو داومت على خير لفتنت به بالعجب أو بالغرور.
فذات مرة اتصل بي رجل وهو يريد أن يتزوج بامرأة صالحة، وقال: إن أمه لا ترضى عن هذه المرأة، وإنها تريد امرأة قريبة له ولكنها أقل صلاحاً من هذه المرأة، فقال: نفسي تميل إلى هذه المرأة الصالحة، ولكن الوالدة تلح على ابنة خالتي؛ لأنها بنت أختها، قال: فأجد في نفسي الضيق أن أترك هذه الصالحة وأبر والدتي.
فقلت له: فيما يظهر من نصوص الشرع ما دام أن هذه بنت الخالة لا ترتكب الحرام، وأنها محافظة على أصول دينها ولكنها ليست في مرتبة الكمال، فبرك لوالدتك أفضل، فما زال يلح حتى تكرر منه السؤال ثلاث أو أربع مرات، وما زلت أحثه على بر والدته، وشاء الله أن يبر والدته وأن يترك المرأة التي كانت أصلح وعلى خير واستقامة، وانصرف إلى بنت خالته، وتزوجت المرأة الصالحة، ويشاء الله عز وجل بعد عام كامل أن ألتقي به في سفر وإذا به يكب عليَّ يسلم ويبكي، قال: والله يا شيخ! لقد سألتك عن أمر كذا وكذا إن كنت لا تذكره فإني أذكرك به، لقد شاء الله عز وجل أن تتزوج هذه المرأة الصالحة وأن أتزوج بنت خالتي، فوضع الله لي البركة في بنت الخالة، فصلحت واهتدت وحصل منها الخير الكثير، وشاء الله أن المرأة الصالحة أنه بعد زواجها بشهرين أن انتكست والعياذ بالله، وأصبحت من أفسق النساء حتى إنها اتهمت.
فالله عز وجل لحكمة يوقفك على شيء تهواه وتحبه، وقد تتحمس لعاطفة الدين وأنت على خير وأنت تريد نية الخير، ولكن الله يقيض لك أماً تدعوك إلى برها ويقيض الله لك والداً يدعوك إلى بره، فقد ترى أن هذه المرأة صالحة، ولكن علم الله أن خاتمتها ليست بحسنة، أو تراها صالحة ولكن علم الله أن ذريتها ليست بصالحة، فيقيض الله لك الوالد أو الوالدة يقفان في وجهك ويصرفانك عما هو أجود، فقد ترى بنت الخالة أو بنت العم أقل صلاحاً، وقد تبتلى في آخر عمرك ببلية وتكون بنت العم أصبر على بليتك، وقد تكون بنت العم التي تراها أقل التزاماً أو أقل طاعة، قد يجعل الله لك منها ذرية ونسلاً صالحاً.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر وأن يعيذنا من العقوق، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى.
إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.