بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به.
وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة.
وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله.
فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف.
يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة.
واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع).
قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثم سائر عمله على ذلك) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها.
وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).
فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها.
والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب.
كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل.
حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل.
وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه.
والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- (أي: العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع.
ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام.