حرمة الغيبة للصائم وغيره

قوله: [وغيبة].

ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل.

وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان.

والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان.

فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية.

أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: (يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان.

أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.

فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره.

فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد.

ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية! - وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول.

والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب.

واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل.

ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة.

والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون.

فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].

فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء.

وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015