قال رحمه الله: [والفم والأنف منه].
بعد أن بيَّن أن الوجه يجب غسله أشار إلى الخلاف الحاصل بين العلماء في مسألة: هل الأنف والفم من الوجه أو ليسا من الوجه؟ وجهان للعلماء: فقال طائفة من أهل العلم -وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقول بعض أصحاب الحديث، وبعض أهل الظاهر-: أن الفم والأنف من الوجه، وبناءً على ذلك يجب على المكلف إذا توضأ أن يتمضمض ويستنشق، فلو غَسَل ظاهر الوجه ولم يتمضمض ولم يستنشق لم يكن غاسلاً للوجه، ثم هل يصح وضوءه أم لا؟ قيل: لا يصح وضوءه، وقيل: يأثم بترك المضمضة والاستنشاق ووضوءه معتبر.
فهذا هو القول الأول: أن المضمضة والاستنشاق يعتبر كل منهما فرضاً من فرائض الوضوء؛ لأنه من الوجه.
والذين قالوا بالوجوب استدلوا بظاهر القرآن: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
فلما قيل لهم: كيف فهمتم أن الفم والأنف يعدان من ظاهر الوجه وخارجه لا من باطنه؟ قالوا: عندنا دليل يدل على أن الأنف والفم من خارج البدن لا من داخله، وهو: أن الإنسان لو كان صائماً ثم أخذ الماء فتمضمض واستنشق أيبطل صومه أو لا يبطل؟ قيل: لا يبطل.
قالوا: فدل هذا على أنهما من خارج البدن لا من داخله، إذ لو كانا من داخله لأفطر من تمضمض واستنشق وهو صائم.
الدليل الثاني: قالوا: لو أن إنساناً استقاء، فأخرج الطعام إلى فمه ثم رد الطعام وهو صائم، ألا يبطل صومُه؟ قيل: يبطل صومه.
قالوا: فلو كان الفم من داخله لما بطل صومه؛ لأنه في هذه الحالة يكون الفم في حكم المريء، ولا يوجب وصول الطعام إليه وازدراده بطلانَ الصوم.
لهذا قالوا: يجب عليه أن يتمضمض وأن يستنشق.
واحتجوا أيضاً بالسُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأت فمضمض) وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه، فدل على أنهما من فرائض الوضوء، وليسا من السنن.
هذه أدلة من يرى وجوب المضمضة والاستنشاق.
والمذهب الثاني -وهو مذهب الجمهور-: أنهما ليسا من الوجه، وأن المراد بالوجه في الآية الكريمة هو البشرة الخارجية، وليس الفم والأنف من خارج الوجه، بل هما من داخل البدن، وعلى هذا فلا يجب على المكلف أن يمضمض ويستنشق في الوضوء، واحتجوا بأدلة من الكتاب والسُّنة.
أما دليلهم من الكتاب: فالآية نفسها، قالوا: إن الله عز وجل قال في كتابه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، ولا شك أن القرآن جاء بلسان العرب، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فيجب تفسيره بدلالة ذلك اللسان، والذي يدل عليه لسان العرب: أن الوجه ظاهر البشرة، ولا يعتبر الفمَ والأنفَ من الوجه، أي: داخلهما، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، قالوا: إن الإنسان إذا واجه الغير فالمواجهة إنما تحصل بالبشرة الظاهرة لا بباطن فمٍ ولا بباطن أنفٍ.
هذا بالنسبة لدلالة لفظ الوجه في اللغة.
وأما دليلهم من السُّنة: قالوا: أكدت السنة هذا المعنى، فقد جاء في حديث الترمذي (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! كيف أتوضأ؟ -أي: صف لي الوضوء الذي أصلي به وأستبيح الصلاة به- فقال عليه الصلاة والسلام: توضأ كما أمرك الله) أي: اقرأ كتاب الله، وما وجدت في آية المائدة فافعله، قالوا: فرد النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي إلى ظاهر القرآن، وهذا أعرابي لا يعرف الوضوء؛ إذ لو كان عارفاً بالوضوء عالماً به لما سأل، فردُّه إلى ظاهر القرآن صريحُ الدلالة على أن المرادَ ظاهرُ الآية.
وأما ما استدل به الفريق الآخر: فأولاً: ما استنبطوه من كون الفم يعد من خارج الوجه، هذا من المسائل التي لا يدركها إلا الفقيه، ويعسُر على أعرابي في بداية الإسلام وهو يسأل عن كيفية الوضوء أن يدرك المسائل الفقهية الخفية.
ثانياً: قولكم: إن اعتباره من داخلٍ وخارجٍ بالصفة التي ذكرتموها في الصوم؛ إنما هو اعتبار حكمي، والاعتبار الحكمي في العبادة المخصوصة لا يطرد في غيرها، أي: كون الشرع حكم بكون الفم من خارجٍِ في عبادة مخصوصة لا يقتضي اطراد ذلك على العموم، إذ لو قيل بذلك لَلَزم منه غسل باطن العين.
وقد كان يُحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرى وجوب غسل داخل العينين، حتى قيل: إنه هو السبب في عمى بصره في آخر عمره.
الشاهد أن الجمهور قالوا: إن ظاهر الكتاب وظاهر السُّنة لا يساعدان على القول بوجوب المضمضة والاستنشاق.
وبناءً على ذلك: فالقول بأن العبرة بظاهر البشرة قوي، ويؤيد ذلك: أن الإنسان لو وجد ماءً لا يكفي إلا لغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه لقيل بوجوب الوضوء عليه، ولما قوي أن يقال له: اعدل إلى التيمم، فدل على أن المراد بغسل الوجه غسل ظاهر البشرة.
وهذا القول هو أقوى الأقوال وأقربها إلى الصواب؛ لظاهر القرآن وظاهر السُّنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما لو قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام داوم على المضمضة والاستنشاق.
فجوابه أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد داوم على السنن من باب التعليم لا من باب الإلزام، ألا تراه عليه الصلاة والسلام -بإجماع الروايات عنه- أنه ما توضأ إلا غسل كفيه قبل أن يتوضأ؟! والذين قالوا بوجوب المضمضة والاستنشاق يسلِّمون بأن غسل الكفين قبل الوضوء لغير المستيقظ من النوم مستحب وليس بواجب، فدل على أن المداومة تكون لما هو واجب ولما هو غير واجب، فيقوى القول بعدم وجوبها.
ولكن ينبغي على المكلف أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا نأخذ من القول بسُنِّيَّة المضمضة والاستنشاق الاستهتار بفعلها، فإن التساهل في السنن لا ينبغي للمسلم، خاصةً لطالب العلم القدوة، ولذلك قد يتعلَّم البعضُ الفقهَ، فيكون نقصاناً في أجره، وحرماناً للخير له، وذلك بأن يتعلم السنن فيفرِّط فيها من باب أنها سنة، وقد تجد طالب علم يقول لك: اترك هذا إنه سنة!! وقد كان ينبغي على طالب العلم أن يقول: احرص عليه؛ لأنه سنة وهدي من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلذلك ينبغي الحرص والمداومة على هذه السُّنة، ولا يعني القول بسُنِّيَّتها أن الإنسان يفرِّط فيها؛ وإنما يحرص على ذلك لسنيته، ولما فيه من الخروج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.
يقول رحمه الله: (منه) أي: من الوجه الذي يجب غسله: الفم، والأنف.
الفم: يتحقق غسله بالمضمضة بإدارة الماء فيه.
وكذلك الأنف: يتحقق غسله بإدخال الماء فيه إلى الخياشيم وجذبه بالنَّفَس ثم طرحه.