إذا لم ير الهلال فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن تكون السماء ليلة الثلاثين صحواً، والسماء الصحو: هي الواضحة التي لا غيم فيها ولا قتر، والقتر: هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يجب الرؤية، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة، وترائينا الهلال ولم نره؛ فحينئذٍ -بالإجماع- تعتبر الليلة من شعبان، ولا تعتبر من شهر رمضان ولا يحكم بدخول شهر رمضان.
الحالة الثانية: وهي أن لا تكون السماء صحواً، أي: فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار، كما يقع في بعض الأحيان حين يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، أو يكون هناك حريق ودخان، فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، فإذا حصل الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا كانت السماء مغيمة، أو كان بها قتر، فإننا نحكم بتمام شهر شعبان، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، أي: أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة، فالحكم عندهم سواء، أي: أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غم عليكم) فنص على أنه إذا لم يُر الهلال -كأن يكون هناك غيم- فإننا نتم العدة ثلاثين يوماً.
والدليل الثاني: قالوا: الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً حتى يدل الدليل على أنه ناقص، فالنقص خلاف الأصل، والقاعدة في الشرع: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فالأصل: أننا في شعبان، ونشك هل دخل رمضان أو لا، فلما كانت العدة ناقصة نقول: يجب علينا إكمال العدة لأنه الأصل، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً.
القول الثاني: قالوا: إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه واختاره طائفة من أصحابه، وهو أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر فإنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان، واستدلوا برواية: (فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا) من التضييق، تقول العرب: قدّر الشيء إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] حينما علم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حلق السرد حتى لا يصاب الإنسان إذا طعن أو جرح، فالتقدير هو: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] يبسط: بمعنى: يغني، ويقدر: بمعنى: يضيق، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إن غم عليكم فاقدروا له) فمعنى ذلك: أننا نقدر شهر شعبان، أي: نضيق شهر شعبان ولا نعده كاملاً، ونجعله تسعاً وعشرين، ثم ندخل في شهر رمضان.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل؛ فإن وصف الأمية لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وصف شرف، وليس بوصف نقص، على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص؛ فإن هناك فرقاً بين الجهل وبين الأمية؛ فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [الجمعة:2] فهو وصف شرف لا نقص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية) يثبت هذا.
ولذلك الأنسب أن يقال: محو الجهل.
لا أن يقال محو الأمية؛ حتى لا يظن الناس أنها صفة نقص.
قال عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) قال الراوي: أشار بيديه ثلاثاً، يعني: ثلاثين يوماً، (وهكذا) أي: أشار ثلاث مرات، قال: ثم قبض إبهامه في الثالثة.
أي: أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين.
وقال أصحاب القول الثاني: إنه لما قال: (الشهر هكذا وهكذا) فمعناه: أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون، والشك في الثلاثين، فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم، وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين، ويكون اليوم الثلاثون مشكوكاً فيه، قالوا: فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم؛ لاحتمال كونه من رمضان.
والذي يترجح والعلم عند الله هو قول الجمهور: وهو أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لا يجب عليهم صيام يوم الثلاثين، والدليل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا يدل على أننا لا نصوم يوم الشك، وهذا نهي تحريم، وإذا ثبت أن الأصل أن يكون الشهر ثلاثين يوماً كما في الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فهذا نص صريح، فالقول الذي يقول: إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى؛ لأنه اعتمد الأصل، وأما رواية: (فاقدروا له) فإن القدر يطلق بمعنيين: الأول: إما أن يراد به التضييق.
الثاني: وإما أن يراد به الحساب.
تقول: قدِّر، يعني: احسب لي هذا الشيء، وبيّن لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب، فلما كان قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله: (اقدروا له) على الحساب؛ لأن القاعدة تقول: (أن مبنى الحديث قرينة على معناه) فلما كان الحديث منبنياً على الحساب، وعندنا معنيان للقدر: معنى التضييق، ومعنى التقدير، وهو الحساب، حملناه على معنى الحساب؛ لأن القاعدة في الأصول أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يخالف نصوصاً أخرى، ومعنىً يوافق، وجب صرفه إلى المعنى الموافق.
فلما جاءنا حديث: (أكلموا العدة ثلاثين) فسّر المراد بقوله: (اقدروا له) أي: اجعلوا لشعبان قدره، فيكون قوله: (اقدروا له) أي: أعطوا شعبان قدره، بمعنى: أكملوا عدة شعبان، فاتفقت رواية التقديم مع رواية الإكمال، وبناءً على ذلك: فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.