قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر.
فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل.
وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج.
فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر.
ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام هذا لا يجوز.
يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه.
ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام.
فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم.
إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة.
فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما: الأول: تحصيل فرائض الله.
الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.