بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (باب زكاة النقدين) هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه الأحكام المتعلقة بزكاة الذهب والفضة، وهما المرادان بقوله: (النقدين)، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يفردون لكل نوع من أنواع الزكاة باباً مستقلاً، ولذلك ابتدأ رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام وبيّن أحكامها، ثم أتبعها بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها رحمه الله بزكاة النقدين؛ والسبب في ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لبهيمة الأنعام، وقد أخّر زكاة النقدين في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر زكاة الفضة بعد زكاة الإبل والبقر والغنم، ولذلك ناسب أن يرتب المصنف رحمه الله على ترتيب السنة، فابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام كما بيّنا، ثم أتبع ذلك بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها بزكاة النقدين.
والمراد بالنقدين: الذهب والفضة، وكان الناس في القديم يتعاملون بهما أصلاً، فكانت الدنانير من الذهب، وكانت الدراهم من الفضة، وما زال الناس يتعاملون بذلك إلى قبل قرنين من الزمان أو قرن ونصف، حيث نشأة فكرة قائمة على المستندات، فكان التجار يسافرون من أماكن بعيدة يخافون في أسفارهم من الغرق وضياع المال، فكانوا يأخذون أوراقاً بالحوالة إلى تجار في الأماكن التي يذهبون إليها، فيسافرون من المشرق إلى المغرب، فيدفعون أموالهم من الذهب إلى رجل في المشرق في البلد الذي هم فيه، يعطيهم حوالة إلى وكيل لهم في المغرب، فيسلمون من ضياع المال في الطريق، وحمل هم حفظه والقيام عليه، فإذا نزلوا بالمكان الذي هم مسافرون إليه وجدوا الوكيل فأعطوه الورقة والمستند، فأعطاهم ما يريدون، فاشتروا تجاراتهم وانتقلوا بها إلى المكان الذي يشاءون.
ثم توسعت الفكرة من التجار حتى أصبحت شائعة ذائعة بين الناس وفي الجماعات، ثم بعد ذلك أصدرت الأوراق المعروفة المعهودة الآن بالنقد، فأصبحت هذه الأوراق من ناحية شرعية بمثابة المستندات لرصيد صاحبها، وهذا أمر ينبغي لكل طالب علم أن يضعه في الاعتبار، أن الورق بذاته ليس مأموراً بزكاته، ولكن رصيده في الأصل إما ذهب إن كان من الجنيه والدولار والدينار ونحوه، أو فضة كالريال، فلما أعطي هذا المستند نُزِّل منزلة الأصل وسمي باسمه، ولذلك كانوا في القديم يتعاملون بريال الفضة المعروف، ثم أُعطوا بدله المستند المكتوب قائماً مقام هذا الأصل، وبناءً على ذلك فمن الناحية الشرعية هي أشبه بمستند الدين والقاعدة: أن المستندات تأخذ حكم أصولها، أي: أنها تُنزَّل منزلتها إذا تعذر الأصل، فأصبحت من الناحية الشرعية منزّلة منزلة رصيده.
ولما شاعت هذه الأوراق أصبح البعض يقول: لا زكاة فيها لأنها ورق، وأغفل الأصل -كون رصيدها من الذهب أو رصيدها من الفضة- ولا شك أن هذا يعتبر مرجوحاً وضعيفاً؛ لأنه يفوت حقوق الفقراء والضعفاء، ولذلك ضعِّف هذا القول -كونها ورقاً لا زكاة فيه- وبناءً على ذلك فالفقه يقتضي أن هذه الأوراق يُنظر إلى رصيدها، فإن كان رصيدها من الفضة وجبت عليها زكاة الفضة، وإذا كان رصيدها من الذهب وجبت فيها زكاة الذهب، بناءً على ذلك أصبح الناس يتعاملون بالفرع قائماً مقام الأصل، ويُنظر إلى رصيدها بحسب أصلها، ثم بعد ذلك ألغي الرصيد، وهذا الإلغاء بتعامل عام لا علاقة له بالأفراد، ومن الناحية الفقهية لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه في الأصل إذا أعطى إنسان إنساناً وثيقة عن دين، ثم قال له: ألغيت لك أصل دينك، فإن هذا الإلغاء من الناحية الشرعية واقع في غير موقعه، فلا يترتب عليه حكم، مثال ذلك: لو أن إنساناً أعطيته كيلو من الذهب، ثم كتب لك مستنداً عن هذا الكيلو، ثم قال لك: هذا المستند لا أعترف به، أو ليس لك فيه رصيد، فالأصل الشرعي يقتضي أن رصيده محكوم به شرعاً، وأنه منزلٌ منزلة رصيده، شاء المديون أو أبى، هذا من الناحية الفقهية، إذا ثبت هذا فالإلغاء لا يؤثر في حقيقة الورق، ولا يلغي قيمتها الشرعية، وبناءً عليه تنزل منزلة رصيده، إذا ثبت هذا، فإننا ننظر في كل عملة إلى أصلها، فما كان من الفضة كالريال فأصله فضة، ويحسب نصابه بالفضة بناءً على أن الورق القديم منزلٌ منزلته.
أما لو قيل بإلغاء الرصيد وأن هذا الورق يُنظر إليه مجرداً، ويجوز التعامل به ولو بالفضل وبالزيادة، فهذا القول فيه نظر من وجوه: الوجه الأول: أنه قائم على إلغاء الرصيد الواقع في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى الإلغاء إلا إذا كان له مستند شرعي، لأنه دين ثابت شرعاً بحكم الشرع، فلو ألغاه المدين لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه لا تأثير له في الأصل، وبناءً على ذلك يكون كالمعجوز عنه كما لو جحده الأصل، وهذا الفرع منزَّل منزلة أصله.
الوجه الثاني: أننا لو قلنا هذا لما وجبت زكاة في ريال، والسبب في ذلك: أن الله لم يأمرنا بزكاة الورق، وإنما أمرنا بزكاة ذهب وفضة، فإذا قلنا: إننا لا نلتفت إلى رصيدها، فلا زكاة فيها، وهذا لا شك أنه يضيِّع حق الله عز وجل، إضافة إلى أن هذا الريال سمي باسم أصله، ولذلك أصله من الفضة فسمي باسمه، فإذا ألغي الرصيد ونُظر إلى الريال مجرداً عن الورق، فإننا لا نلتفت إلى وجوب الزكاة فيه، فلو قال قائل: إن هذا الورق له قيمة في ذاته، فوجبت فيه الزكاة؛ لأن له رواجاً وله قيمة، أُجيب بأن قيمة الورق لا تستلزم وجوب الزكاة فيه، ألا ترى ورق العلم كتب العلم ونحوها، فإن لها قيمة وتباع بقيمة ولها ثمن، ومع ذلك لا تجب فيها الزكاة، وعلى هذا فإنه لا يُلتفت إلى القول بإلغاء الرصيد، وهذا الذي يقوى من جهة النظر، وأن هذه الأوراق منزلة منزلة رصيد، ولو قيل بإلغاء الرصيد وجواز التفاضل بين الريال الورق والريال المعدني لحل الربا نسيئة وفضلاً وزيادة، ووجه ذلك: إذا ساغ لرجل أن يعطي رجلاً مائة ألف من الورق ثم يقول: اقضها لي بالحديد مائتين أو مائة وعشرين، وهذا لا شك أنه فتح للقول بجواز ما حرّم الله عز وجل، وحينئذٍ يتمكن أهل الربا من المراباة دون أن يُحكم بحرمة تعامله؛ لأنه يقول له: خذها ريالاً وردها حديداً، وحينئذٍ يمكنه أن يفاضل ويقع الربا الذي حرم الله عز وجل، ونهى عباده عنه.
فالذي يظهر أن هذه الأوراق منزَّلة منزِلة رصيدها، وإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: نصابها نصاب الرصيد، وكل ريال منزّل منزلة الرصيد، والحديد المعدني ينزل منزلة الريال الورق؛ لأن كل ريال من الحديد أو الورق إنما هو مقابل لريال من الفضة، فإذا صرفت مثلاً ريالين من الحديد بريال من الورق، كأنك صرفت ريالين من الفضة التي هي في رصيده مقابل ريال من الفضة، وهذا عين ربا الفضل، وعلى هذا فإنه لا بد من تنزيل هذا الفرع منزلة أصله، والحكم بكونها أموالاً منزَّلة منزلة أصولها، فتعتبر الريالات من الفضة، وزكاتها زكاة الفضة.
أما على القول بعدم الالتفات إلى الرصيد، فهم نظروا إلى قيمتها أعني قيمة الفضة بالورق، فقالوا: إذا أراد أن يزكي فإنه ينظر إلى قيمة ريالات الفضة القديمة بريالات الورق، والواقع أن ريالات الفضة القديمة ينبغي صرفها بريالات الورق مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن ريال الفضة القديم كريال الورق سواءً بسواء؛ لأنه مستند عن أصل واحد، فلو اشترى إنسان ريال فضة قديم بعشرة ريالات من الورق فهو عين الربا الذي حرّم الله، لأنه كأنه صرف عشرة ريالات من الفضة في مقابل ريال من الفضة، وهذا عين الذي نهى الله عز وجل وحرّم، فلا يعقل أننا نقول في الزكاة: انظر إلى قيمة ريال الفضة القديم بالريال الورق؛ لأنه لو قيل بذلك لجازت أصل المعاملة وهي ربوية، وعلى هذا فالذي يظهر أن كل ريال من الورق منزل منزلة رصيده من الفضة، وكل ريال من الحديد والنيكل منزل منزلة رصيده من الفضة بناءً على ذلك فنصاب الفضة له حكم، ونصاب الذهب له حكم.