وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار

قال رحمه الله تعالى: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة].

قد بيّنا أن اشتداد الحبوب من علامة بدو الصلاح، فالحب أول ما يكون يكون ليناً في سنابله، ثم يبدأ يشتد، فإذا اشتد وابيضّ -كما في رواية الصحيح- بدا صلاحه وجاز بيعه حينئذٍ، أما قبل الاشتداد فلا يجوز البيع ولا يحكم ببدو صلاح، فإذا اشتد الحب يبعث الإمام الخُرَّاص، والخارص: هو الشخص الذي له خبرة في الحبوب والنخيل، بحيث ينظر إليها ويعلم مقدار ما فيها عن طريق التجربة على سبيل التقريب، فيقول: هذا النخل فيه مثلاً ألف صاع، ويبيِّن أو يقدر ما على كل نخلة، وهذا راجع إلى الخبرة وكثرة الابتلاء في هذا العمل، فذلك يجعل الإنسان من السهل عليه أن ينظر إلى النخلة، ويعلم ما بها.

والدليل على مشروعية الخرص: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر)، وخيبر لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم كان بها اليهود، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإذا بها أرض زرع، فالصحابة سيرجعون معه إلى المدينة، ولا شك أن هذا الزرع سيتلف ويهلك، فلا هو استفاد منها، ولا استفادت يهود، فسألوه أن يتركهم في هذا النخل يعملون فيه ويصلحونه حتى يثمر، وإذا أثمر قسمت الثمرة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقي أهل خيبر على الشطر -وهو النصف، فيكون لهم نصف الثمرة وللنبي صلى الله عليه وسلم نصف الثمرة- فكان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لكي يخرص نخل خيبر) يخرص بمعنى: أنه يحدد كم في هذا النخل من الآصع، ثم يخلى بين اليهود والنخل- فيدفعون النصف الذي تبين أن نصف النخل على قدر ما بيّن عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل في مشروعية الخرص، والعلماء مجمعون على مشروعية الخرص، وأنه إذا بدا الصلاح يبعث الإمام الولي من يخرص للناس نخيلهم وحبوبهم، ليقدر المقدار الذي أوجب الله وفرض في نخيلهم وحبوبهم.

قال: [وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح].

قوله: (اشتد الحب) علامة خاصة، وقوله: (بدا الصلاح) علامة عامة، ونحن بيّنا العلامات الخاصة والعلامات العامة في بدو الصلاح، فالحبوب والثمار إذا بدا صلاحها ينظر كم يحمل هذا النخل أو هذا الزرع من الحبوب والثمار ويحسب ويقدر، ثم يخلى بين الناس وبين الحبوب والثمار ينتفعون بها، فيترك لصاحب البستان بستانه، أن يأكله بلحاً ورطباً وتمراً، وأن يبيع وأن يتصدق وأن يهدي، يخلى بينه وبينه، حتى إذا انتهى وجذ جاء إلى الولي بالمقدار الذي حدد في زكاة المال، فيأتي الخارص ويخرص النخيل والحبوب والثمار والعنب وغيره، وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه ليخرص العنب والنخيل) فهذا كله يدل على مشروعية الخرص عند بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وحدد المقدار الواجب يترك الناس، يقال لهم: هذا نخلكم وهذا زرعكم افعلوا به ما شئتم، وإنما يجب عليكم أن تُخرجوا من الزكاة قدر كذا وكذا.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر].

(ولا يستقر الوجوب) بمعنى: لا ويطالب الفلاح (إلا بجعلها) أي: بجعل الثمار والحبوب (في البيدر) وهو المكان الذي تجلب إليه الثمرة.

والتمر إذا جُذَّ يكون فيه شيء من اللين، فيحتاج إلى أن يشمّس، فيبسط في مكان يسمى بالبيدر، فهذا المكان تضربه فيه الشمس حتى يقوى ويشتد؛ لكي يصلح لاختزانه، وكذلك أيضاً لكنزه في الآلات التي يكنز فيها، أما لو أُخذ قبل ذلك من النخلة مباشرة ووضع في الآلات فربما فسد فلم يصلح للأكل، ولذلك يحتاج إلى أن يشمس، فهذا البيدر هو المكان الذي يشمس فيه.

وأما الحبوب فإنها تحتاج بعد أن تُجَذ إلى أن توضع ثم تفرش وتصفى، وبعد ذلك ينتفع الناس بها، وتخرج لأجل أن تكون في مصالحهم فيطعمونها ويرتفقون بها.

فقبل جلبها إلى هذا المكان لا يستقر الوجوب على أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، منهم من قال: العبرة بالجذ، فإذا جذ، وجبت عليه الزكاة، واستقرت في ذمته؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر الله عز وجل بإيتاء الحق عند الحصاد وحين الحصاد، ولذلك يجب عليه ذلك.

[فإن تلفت قبله بغير تعدٍّ منه سقطت].

وهذا بناءً على القول الذي يَشْتَرِط أن تكون في البيدر، فهذا القول الذي يشترط هذا الشرط لا يطالب صاحب النخل بالزكاة ودفعها إذا تلفت قبل وضعها في البيدر، ولكن بشرط أن لا يفرط، فإن فرّط ضمن، فإذا أصابتها الآفة قبل جلبها إلى البيدر -ما بين الجذاذ وبين جلبها إلى البيدر- فأصابها إعصار وتلفت أو أصابها غرق -جاء السيل وأغرقها- فحينئذٍ لا يلزمه الضمان، فلا تجب عليه الزكاة، ولا يطالب بدفعها، هذا حسب القول الذي يشترط لاستقرار الوجوب أن تجلب للبيدر.

أما على القول الثاني فإنه بمجرد جذِّه يعتبر في حكم الآخذ لها، وحينئذٍ إذا تأخر في دفعها للمستحقين يتحمل المسئولية.

والأولون يقولون: كيف يدفعها للوالي وهي لم تستصلح بعد ولا يمكن أن يكيلها إلا بعد أن توضع في البيدر وتشمّس ثم بعد ذلك تُكال، ويمكن أن تخرج للناس؟! وهذا القول للجمهور رحمة الله عليهم، وهو من جهة النظر أقوى وظاهر التنزيل على القول الأول له وجهه، وبناءً على ذلك يقولون: إذا تلفت من غير تعدٍ لم يضمن، وإن تلفت بتعدٍ ضمن.

وتلفها بتعدٍ كأن يأتي ويجذ الثمرة ثم يضعها في بيدر مكشوف أمام الناس، ومزرعته مفتوحة لكل من أراد أن يدخل، فجاء السارق وأخذ الثمرة؛ فهذه السرقة وقعت بتعدٍّ وتفريط منه، فإذا فرّط وتعدى أُلزم بعاقبة تفريطه، فيجب عليه ضمان الزكاة، ولا تسقط عنه الزكاة على هذا الوجه لأنه فرّط.

(أو تعدى) أي: تعاطى أسباب الفساد، كأن يرسل الماء عليها، أو يضعها في الشمس على طريقة يفسد بها التمر، فحينئذٍ نقول: أنت الذي تعديت فتُلزم بما فعلت من التعدي، وتجب عليك الزكاة، فيشتري غيرها ويدفعها زكاة بالمقدار الذي وجب في ذمته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015