والسنة: أن يصنع لهم الطعام لا أن يصنعوه للغير، فتكليف أهل الميت بصنع الطعام خلاف السنة، وهو إلى البدعة أقرب، بل قد يكون حراماً إذا كان من أموال اليتامى والقصار كما يفعله بعض الجهال، حيث يقدمون على تركة الميت التي فيها حق اليتامى والأرامل، ويأخذون منها الأموال لوضع الفرش والبسط وكلفة العزاء وكأنه حدث عرس، فيتكلفون في ذلك ويضرون بآل الميت، فيكون هذا الطعام من أكل أموال اليتامى ظلماً، والفاعلون لذلك وصفهم الله بأنهم: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك: لا يشرع أن يصنع أهل الميت للناس طعاماً، وإنما يصنع الناس لهم طعاماً، إلا أن هنا مسألة عمت بها البلوى، وهي مسألة الضيف إذا نزل على آل الميت، فإذا كان هناك ضيف، خاصةً من القرابات: كأبناء عمٍ أو إخوانٍ نزلوا وجاءوا من سفر ونزلوا على الإنسان، وهم ضيوف لهم حق الضيافة، فذبح لهم لا لأجل الموت ولا صدقةً على الميت، بل إكراماً للضيف فلا حرج؛ لأن هذا منفكٌ عن أصل مسألتنا، فليس من العزاء ولا هو متعلق بالعزاء، وإنما هو من باب إكرام للضيف الذي أمر الله به ورسوله، فيكرم الضيف ولا حرج.
لكن الأولى ألا يكون في بيت الميت، وإنما ينتقل إلى بيوت الجيران أو نحو ذلك، والأولى أن يكون الجيران هم الذين يتولون شأن الضيوف، وهكذا القرابات كأبناء العم ونحوهم؛ لأن آل الميت مشغولون.
وضيافة الضيف تكون على المستطيع القادر، إذا كان أهل الميت في شغل فإن ضيافة الضيوف تكون على قرابتهم أو جيرانهم، وهذا هو المنبغي أدباً وعُرفاً.
ولو صنع أهل الميت الطعام لقرابتهم أو لضيوفهم الذين قدموا من سفر، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه لا يقصد به العزاء، ولا يقصد به إقامة المأتم، ولا يقصد به المحظور، وإنما هو مبني على أصلٍ شرعي، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات) فهذا قد نوى إكرام الضيف، ولم ينو به الصدقة عن الميت، ولم ينو به إحياء العزاء، فهو باقٍ تحت أصلٍ شرعي يوجب الحكم باعتباره حتى يدل الدليل على إلغائه، ولا يوجد دليل يلغيه.
فتبين أنه لا يشرع لهم أن يصنعوا للغير إلا في هذه الحالة، وما عداها فإنه ينص على أنه من البدعة والحدث، وفي حديث جرير أنهم كانوا يعدون الجلوس في بيت الميت وصنع الطعام فيه من النياحة، يعني: مما حظر الله من النياحة التي هي من كبائر الذنوب.
قوله: (يبعث به إليهم): أي فلا يجتمع الناس عند أهل الميت، فإذا بعثنا بالطعام إليهم فلا يُجمع الناس على هذا الطعام، إنما يختص بآل الميت؛ والناس اليوم يشقون على أنفسهم ويخرجون من سماحة الإسلام ويسره، إلى كلفة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد أيام العزاء أثقل ما تكون على آل الميت، فهم ما بين داخل وخارجٍ في قيامهم على الضيوف الذين يتكرر توافدهم على البيت، ولربما يبقى الواحد منهم من الصباح إلى العشيّ ولا يفارق آل الميت، فيكون كلاً وعناءً عليهم، وهذا لا شك أنه لا يجوز؛ لما فيه من الضرر والأذية ولأن جلوسهم في بيت الميت عبء على أهل الميت؛ لأنهم سيضطرون إلى ضيافتهم.
ثم هذا الجلوس قد يصحبه المحظور من الكلام في فضول الدنيا، وشغل آل الميت عما هم فيه من الحزن على ميتهم، وقد أذن الشرع لهم بالحداد ثلاثاً؛ حتى يذهب ما في النفس من لوعة الفراق وحزنها، فيطفأ ما في الأكباد من حرارة الفراق وألمه ولوعته، فيأتي هذا لكي يتحدث في فضول الدنيا، وقد يقصد من ذلك تسلية أهل الميت، فيكون قصداً مخالفاً للشرع؛ لأن الإنسان إذا فجع بقريبه ربما تاب من ذنبه، واعتبر بفراق القريب، وأحس أنه لاحق به إما عاجلاً أو آجلاً؛ فدعاه ذلك إلى الإحسان وإلى إمعان النظر، لكن إذا جاء هذا وشغله بحديث الدنيا ألهاه عن التفكر والاعتبار، وعن الاشتغال بما هو مقصود وبما هو أهم؛ ولذلك لا يشرع مثل هذا من الجلوس في بيت الميت، إنما يأتي الإنسان ويعزي.