يقول المصنف رحمه الله: [وأولى الناس بتغسيله وصيه].
يبين رحمه الله بهذه العبارة أن أحق الناس بتغسيل الميت وصي الميت، وهذه الوصية مشروعة؛ وذلك لأنه ربما كان ذلك الشخص الموصى إليه معروفاً بالعلم والاستقامة والسنة، والحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء بالخير؛ فيكون أفضل من غيره وأولى وأحرى، وخاصةً في الأماكن التي يكثر فيها الجهل أو توجد فيها البدع والأهواء، ويكون هناك من عرف بالاستقامة والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون الوصية لمثله آكد وأولى وأحرى.
وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه وصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، وهذا يدل على مشروعية الوصية، وكذلك جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه وصى أن يغسله محمد بن سيرين، وكان مرهوناً في دين، فأخرج من سجنه لتغسيل أنس رضي الله عنه؛ لأنه وصى له بذلك.
فالوصي مقدمٌ على غيره؛ لأن الميت اختاره من دون الناس، خاصةً إذا وُجد المبرر -كما قلنا- من علمٍ واستقامة وحرصٍ على الخير.
وقوله: [ثم أبوه].
يلي الوصي الأب، فالأب أحق بتغسيل ابنه؛ وذلك لمكان عظيم الشفقة والقيام بحقه على أتم الوجوه.
وهذا إنما يكون إذا تنازع القرابة فقال الأخ: أنا أريد تغسيله، وقال الابن: أنا أريد تغسيله، واختصم الأقرباء، فحينئذٍ يحتاج الفقهاء إلى وضع ترتيب للأقارب بحيث يُبين من الذي يقدم من الأقارب، فقال رحمه الله: [ثم أبوه] أي: الأب هو أول من يقدم من قرابة الميت، والأمر واضح؛ فإن أحق الناس هم الوالدان، ولكن الأم يتعذر غسلها لابنها، فبقي الحق للأب على الأصل في تغسيل الرجل للرجل.
وقوله: [ثم جده].
الضمير عائد إلى الميت، أي: جدّ الميت: وهو أبو الأب، فالمراد جهة الأبوة، إذا قلت: يقدم الأب ستنظر إلى هذه الجهة، وتبدأ بالأب المباشر، ثم أبوه وإن علا، فيقدم الأب على الجد، والجد الأقرب على الجد الأبعد، فأبو الأب مقدم على جد الأب؛ وهذا لأن الجهة يقدم بها، فإذا تساووا في الجهة نُظِر إلى القرب: فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا لو اختصم أبٌ وجد في تغسيل الابن فإنه يقدم الأب المباشر على الجد، وهكذا لو اختصم الجد وجد الجد، قدم الجد الأقرب على الجد الأبعد.
وقوله: [ثم الأقرب فالأقرب من عصباته]: الآباء ثم الأبناء ثم الإخوان، فإذا لم يوجد له أب ولا ابن -الذي هو الفرع- ينتقل إلى جهة الإخوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) والعم أخٌ للأب، فجعل الأخ مع أخيه كالشيء الذي خرج من أصلٍ واحد، فبعد الأب يقدم الابن، ثم إذا لم يكن للميت ابن يقدم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب، ثم بعد ذلك أقرب العصبات: فيقدم ابن ابنِ العم على ابن ابن ابنِ العم، على حسب الترتيب الذي سبق الإشارة إليه.
وقوله: [ثم ذوو أرحامه]: أي: فيقدمون على حسب منازلهم، كابن بنت الابن مع ابن بنتِ بنت الابن؛ فإنه يقدم الأقرب على الأبعد، وذوو الأرحام في الفرائض هم الذين ليس لهم فرضٌ ولا تعصيب، كابن الخالة، فإنه ليس له فرض ولا تعصيب، ولهم ميراث خاص سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في باب الفرائض.
وقوله: [وأنثى وصيتها].
بعد أن بين الرجال فقال: نقدم الآباء ثم آباءهم وإن علوا، ثم الأبناء وأبناءهم وإن نزلوا، ثم الإخوة، ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام، ثم أبناء الأعمام على الترتيب الذي ذكرناه؛ شرع في الإناث، فقال: الحكم في المرأة كالحكم في الرجل سواء بسواء، فقال: [وصيتها] فلو أوصت امرأة أن التي تلي تغسيلها هي فلانة، ولو كانت أجنبية فإنها تقدم على قريباتها.
وقوله: [ثم القربى فالقربى من نسائها]: أي: على نفس الترتيب، فتقدم الأم أولاً، فإذا وجدت الأم فهي أحق من يلي تغسيل ابنتها، ثم أمها وهي الجدة -أم الأم- وتقدم القربى على البعدى، فأم الأم مقدمة على أمّ أم الأم، وبعد جهة الأمومة ينتقل إلى البنوة، فالبنت إذا لم توجد أمها، أو كانت الأم لا تستطيع أن تلي التغسيل فننتقل إلى البنات، فبنتها أحق بتغسيلها، ثم بنت بنتها وإن نزلت، ثم بعد ذلك أختها الشقيقة، ثم أختها لأم، وقال بعض العلماء: أختها لأب.
وإن كان من جهة الأم قالوا: نقدم الأم، على خلاف الذكور، فإنا نقدم من جهة العصبة والرجل والذكر.
ثم بعد ذلك بنات الأخوات الشقيقات، ثم بنات الأخوات لأم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى العمات؛ ثم بنات العمات على حسب الترتيب الذي عكسه في الرجال.