وهنا مسألة، وهي: مسألة موت الدماغ، فإنها حيرت الأطباء: هل إذا مات دماغ الإنسان يعتبرُ ميتاً أو ليس بميت؟ وهي التي يسمونها (الموت السريري) وقد عمت بها البلوى خاصةً في هذا الزمان، وصورة المسألة أن جذع الدماغ يموت، ويقرر الأطباء أن جذع الدماغ قد مات، فلا يتحرك الإنسان ولا يستجيب لأي حركة، حتى ولو غرز بالإبرة أو أوذي فإنه لا يتضرر ولا يحدث أي استجابة في جسمه، غاية ما في الأمر: أن قلبه ينبض، وأن نفسه ظاهر، يتنفس تنفس الحي بواسطة الأجهزة، حتى لو أن هذه الأجهزة سحبت عنه يموت من ساعته.
ف
Q هل هذه النوعية من المرضى تعتبر ميتة، وينبني عليها ما ينبني على الحكم بموت الإنسان، من شرعية سحب الأجهزة والحكم بكونه ميتاً حتى يورث، ونحو ذلك من التبعات الفقهية المترتبة على الحكم بموت الإنسان، أم أنه ليس بميت؟ في الحقيقة هذه المسألة أولاً: تحتاج إلى بحث من جهة إثبات موت الدماغ، فالأطباء أنفسهم لم يتفقوا على صيغة معينة وشروط معينة تُبين أو تحدّد بالدقة الموت الحقيقي للدماغ، وهناك قرابة ثلاث مدارس للأطباء في حقيقة إثبات موت الدماغ، والمشكلة ليست هنا، المشكلة أن معرفة موت الدماغ، والتأكد أنه قد مات لا يمكن التوصل إليه في أقوى المدارس الطبية إلا بواسطة أجهزة دقيقة لا تتيسر في غالب الأمكنة.
ولذلك: فالاستعجال بالحكم، بكون هذا موتاً يحتاج إلى نظر، والأصل الشرعي يقتضي أن من به حركة يحكم بحياته؛ لأن الحركة دالة على الروح، والجسم كانت فيه الروح التي هي الحقيقة، وأثرها التي هي الحركة.
وعلى هذا فإننا نقول: (الأصل بقاء ما كان على مكان)، ولم أجد دليلاً شرعياً صحيحاً يدل على أن موت الدماغ يدل على موت الإنسان، بل وقعت حوادث تخالف هذا، حتى إن من الأمور التي حدثت بسبب هذه المسألة أنهم اختلفوا في امرأة، هل هي ميتة أو ليست ميتة في منطقة من مناطق الخارج، فحكم الأطباء بموتها، وأصر آخرون على أن موت الدماغ لا يجيز لهم سحب الأجهزة، واختلفت الكنائس في الخارج في الحكم بموت هذه الفتاة، حتى بقيت عشر سنوات تحت الأجهزة ثم أفاقت بعد عشر سنوات! وهذا أمر يؤكد أن الاستعجال في مثل هذه القضايا يحتاج إلى نظر؛ ولذلك فالأصل أنه حي، والأصل أنه لا يجوز الإقدام على سحب الجهاز عنه إلا بمبرر شرعي، فيبقى على هذه الحالة، فالذي تطمئن إليه النفس أنه حي.
وهناك مسألةٌ فقهية قديمة يمكن أن نخرج عليها هذه المسألة، وهذه المسألة تُعرف عند العلماء بالقاعدة التي نبه عليها الإمام النقري في القواعد، وكذلك غيره كـ الزركشي في المنثور، وهي القاعدة التي تقول: (الحياة المستعارة، هل هي كالعدم أو لا؟).
تكلم العلماء على هذه المسألة، في مسألة ما إذا ما هجم الذئب على شاةٍ أو غنمة فبقر بطنها، فإنه إذا بقر بطنها الغالب أنها ميتة، فلو أنك أدركتها قبل أن تموت وهي تتحرك -ترفس بقدميها- وأسباب موتها قد وجدت، فذكّيتها في هذه الحالة، فإن قلنا: الحياة المستعارة -يعني: التي هي في الأخير- حقيقية فذكاتك مؤثرة والشاة يجوز أكلها، وإن قلنا: إنها حياةٌ كالعدم؛ حينئذٍ ذكاتك في هذا الوضع لا تأثير لها.
فإذاً: كأنهم يفصلون على مسألة الحركة، فالذين يقولون: إنها حية، والذكاة مؤثرة يقولون: لا زالت الروح حية، فوقعت التذكية على حيّ، وكل تذكيةٍ لحيّ موجبة لحله إذا كان مما يحل أكله.
وبناءً على ذلك عندنا أصل من العلماء يعتبر الحياة المستعارة، وإن كان بعض أهل العلم خرج هذه المسألة على مسألة إنفاذ المقاصد، كأنهم يقولون: إن الذئب إذا قتل الشاة بالبقْر، فقد أُنفذت مقاتلها، بمعنى: أنها استنفذت بالهلاك بهذه الوسيلة، فيخرجها عن المسألة التي معنا، لكنها تصلح للاستشهاد.
والذي يعنينا: أن الميت الذي مات دماغه لا يزال محكوماً بحياته، خاصةً وأننا لو فتحنا هذا الباب تحت الأجهزة، وعلى هذا لا يتيسر معرفة موت الدماغ إلا بصعوبة وفي أماكن خاصة، وربما يفتح هذا الباب الإقدام -حتى عند بعض المتساهلين من الأطباء -على سحب الأجهزة- ممن لا يصل إلى درجة القطع بموت دماغه، وهذا أمر ينبغي أن يحتاط فيه لأرواح الناس كما هو الأصل الشرعي.
لكن هناك مسألة: لو فرضنا أن رجلاً كبير السن في آخر عمره وضع الجهاز عليه، أو رجلٌ شاب في شبابه لكنه أصيب بحادث أو نحو ذلك، والغالب أنه يهلك، وقد مات دماغه في كلام الأطباء، وجاءت حالة ثانية لإنسان ترجى حياته أكثر، وليس عندنا إلا جهازٌ واحد، فهل يشرع سحب الجهاز عن هذا الذي قد غلب على الظن هلاكه لكي نبقي هذه الروح أو لا يشرع؟
صلى الله عليه وسلم نعم، يشرع أن يسحب منه في هذه الحالة، فهذه هي الحالة التي تعتبر مستثناة في سحب الأجهزة: أنه إذا وُجدت حالات أحوج يجوز حينئذٍ سحبها، وهذا مقرر على الأصل الشرعي في ازدحام الحقوق: أنه إذا ازدحم حقٌ يمكن تداركه مع حق لا يمكن تداركه أو مع مصلحة لا يمكن تداركها، قُدّمت المصلحة والحق الذي يمكن تداركه.
هذا بالنسبة لمسألة من مات فجأة، وموت الفجأة بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رحمة من الله بالمؤمن، ونقمة عاجلة من الله بالكافر، وموت الفجأة استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ لأن موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خير كثير، يحول بينه وبين الوصية في أمور ربما تكون من فضائل الأعمال، يحول بينه وبين تنبيه أهله وذويه على أمور قد يكونون محتاجين إليها، خاصةً أن الأب إذا أوصى في آخر حياته كان لوصيته في قلوب أبنائه وبناته وقعاً كبيراً، فلذلك كان موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خيرٍ كثير، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.
لكنه أخبر في الحديث الآخر أن موت الفجأة رحمة بالمؤمن؛ لأن الإنسان إذا مات ربما تألم وتأوه في مرضه وإن كان تأوهه وتألمه يرفعه درجة، حتى ورد في الحديث أن الله يشدد على العبد: (إذا أحب الله عبداً من عباده غفر له ذنوبه، فإذا بقيت له ذنوب خفف عنه بالبلاء قبل الموت) فشدد عليه في سكرات الموت، وشدد عليه في مرض الموت، حتى يوافي الله عز وجل بلا ذنبٍ ولا خطيئة.
فموت الفجأة رحمة من جهة كونه يحول بين الإنسان وبين الألم والضرر الذي في ظاهره عناءٌ وعذاب به، وأياً كان: إذا مات الإنسان يجب مراعاة هذه الأمور؛ لكن لو قرر الأطباء أنه ميتٌ فعلاً فحينئذٍ يحكم عليه بالموت.