للخاتمة الحسنة علامات في الأقوال والأفعال، وظواهر الموتى، فمن علامات حسن الخاتمة القولية: قول "لا إله إلا الله"، والموت على ذكر الله جل جلاله، ومن هنا قال العلماء: (من أكثر من شيء في الدنيا فإنه يُختمُ له به)، أي: في الغالب، فإن كان كثير الطاعة لله جل جلاله، كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير القربة؛ فإنه يأتيه الموت وهو ساجد بين يدي الله أو راكعٌ أو صائم، أو يأتيه وهو ذاكرٌ تال للقرآن، أو يأتيه وهو على تسبيح أو على استغفار أو تهليلٍ أو تحميد، أو غير ذلك من الطاعات والقربات.
ومن أكثر من الصلة والبر والإحسان إلى الضعفة والمساكين؛ ربما جاءه الموت وهو خارجٌ في صلةِ رحم، أو بر والدين، أو طاعةٍ لله سبحانه وتعالى على حسب ما استكثر.
وأما من استكثر من الحرام والفحش، فإن الله عز وجل يختم له بما كان له من غالب حاله، حتى لربما ذُكّر بلا إله إلا الله فامتنع عن قولها، ولربما تكلم بالحرام، ولربما تكلم بالغناء والفُحش والدعارة وهو في آخر لحظاته من الدنيا فيختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية! وفي حوادث الناس وأخبارهم ما تشيب له رءوس الولدان مما كان من حسن الخاتمة وسوئها، فالإنسان إذا أكثر من الخير فإن الله يختم له بخير، ومن هنا قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]؛ قالوا: الإنسان لا يملك أن يموت على الإسلام، بمعنى أنه لا يستطيع أن يقطع أن يموت مسلماً، ولكن المراد من الآية وكونوا على الإسلام، حتى إذا جاءكم موت جاءكم وأنتم على طاعة الله جل جلاله وعلى محبته ومرضاته؛ فيُختم للإنسان بالخاتمة الحسنة.
ومن علامة حُسن الخاتمة التي تكون في الأفعال: أن يموت وهو في صلاة، أو يموت وهو في حج، أو يموت وهو في عمرة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
فقوله: (إنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذه الحالة التي مات عليها من طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك ينبغي للمسلم -كما قلنا- أن يكون على خصال البر حتى يختم الله عز وجل له بالخاتمة الحسنة، ومن هنا شدد العلماء في تعاطي المحرمات التي قد تفضي إلى الموت -كشرب الخمر والعياذ بالله- فإن الإنسان إذا تعاطى مثل هذه المحرمات قد يُختمُ له بها، فقد يموت شارباً للخمر فيهوي في النار لزوال عقله، فيحرق بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وقد يكون شارباً للخمر فيتردى من فوق بيته أو من شاهق، أو يطعن نفسه أو ينتحر والعياذ بالله، فهذه من علامة سوء الخاتمة في الأفعال، فكما أن حسن الخاتمة يكون في الأفعال كذلك -أيضاً- سوء الخاتمة يكون بهذه الأفعال.
ومن علامات حسن الخاتمة: رشح الجبين، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موت المؤمن يكون بعرق الجبين)، فإنه يرشح جبينه، وتكون على المؤمن الصالح البر التقي علامات الطمأنينة وعلامات الاستبشار، حتى أن بعضهم يموت وهو مبتسم؛ مما يرى عند الله عز وجل من البشائر الحسنة، فتجد ثغره باسماً يتهلل.
بل إن بعض الأموات من الأخيار والصالحين لا ترى في وجوههم وحشة الموت، ولقد رأيت أحد الفضلاء وقد كان كثير الصدقات، كثير الإحسان، بعيداً عن أذية الناس، كثير الخير للضعفاء والمساكين، رأيته بعد موته فوالله ما رأيت أشرق منه وجهاً تلك الساعة، ولقد كنت أتمنى ألا يحجب وجهه عن رؤيته من لذة ما تراه، فو الله الذي لا إله إلا هو لكأنك تنظر إلى شمسٍ تتهلل من النور والضياء، وكأنه حيّ، لا ترى عليه وحشة الميت؛ وهذا كله بفضل الله عز وجل؛ ثم بما كان من الإنسان من الأعمال الصالحة.
أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما حضرته الوفاة، لقنوه قول "لا إله إلا الله" ثم نظر إلى السماء فتبسم ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
وهذا يدل على أنه رأى خيراً من الله سبحانه وتعالى، وهي بشارةٌ حسنة، وكم في قصص الأخيار والصالحين من حسن الختام، والبشائر التي تدل على لطف الله عز وجل بأوليائه وأحبابه! ولا شك أن الإنسان إذا عمل العمل الصالح، فإنه ينتظر من الله أن يرحمه ولا يعذبه، وينتظر من الله عز وجل أن يعزه ولا يذله، وأن يكرمه ولا يهينه، وألا يخزيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمن عاجل ما أعد الله للأخيار الصالحين: أن الله لا يخزيهم في الدنيا ولا يخزيهم في الآخرة؛ ولذلك تكون خاتمتهم على أحسن ما تكون عليه الخواتم، وترى من ثناء الناس ودعائهم وتفطر القلوب على فراقهم، ما يشهد بالقبول من الله جل وعلا، فإن الله إذا وضع القبول للعبد في السماء وضعه له في الأرض.
قوله: [تعاهد بل حلقه بماء أو شراب] أي: حتى يسهل عليه النطق بهذه الكلمة، وحتى يكون آخر ما يقول "لا إله إلا الله"، وإذا قال: "لا إله إلا الله" (مرة) سكت عنه حتى لا يضجر، فإن تكلم بعدها بكلام من الدنيا أعيدت عليه بعد فراغه من كلام الدنيا وقضاء حاجته.
وفي تلقين الأموات أحوال: فبعضهم قد تخاف منه السآمة والضجر، وبضعهم لا تخشى منه شيئاً، بل إن بعضهم يفرح حين يجد من يلقنه التهليل ويستبشر، وتجد عليه الأنس والسرور، فهذا لا إشكال فيه.
أما إذا كنت تخشى منه الضجر أو تخشى منه السآمة فعليك أن تلقنه بطريق غير مباشر، كأن تذكر شيئاً من عظمة الله عز وجل، ثم تقول: لا إله إلا الله، أو تقولها بلسان خاشع وقلب خاشع إذا رأيت منه الغفلة؛ فإن هذا يدعوه إلى التأسي بك والاقتداء بك، فإن ذكر الله يحث على ذكره سبحانه وتعالى، ويشوق إلى ذكر هذه الكلمة الطيبة.
يتعاهد بل حلقه بالماء أو بالشراب إذا كان هناك عصير ونحو ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه.
وكذلك بل الحلق بالماء فيه فائدة ثانية، وهي أنه ربما يحتاج المريض إلى شيء، فإذا احتاج إلى هذا الشيء لا يستطيع أن يتكلم وحلقه جاف، وفي جفاف الحلق عسر عليه وأذية ومرض، فمن اللطف والرحمة به أن يبله، وهذا يدخل في عمومات الشريعة التي تدل على الرحمة والإحسان.
يقول المصنف رحمه الله: [وندي شفتيه بقطنةٍ].
قوله: [ويندي شفتيه بقطنة] كل ذلك من أجل أن يسهل عليه الكلام والحديث، وهو أيضاً أرفق؛ لأنه إذا اخشوشن حلقه ربما تضرر، وحصلت له المشقة إذا طلب شيئاً أو سأله، وربما تعذر عليه أن يتكلم بما يحتاج.
قال المصنف: [وتلقينه "لا إله إلا الله" (مرةً) ولا يزد على ثلاث، إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفقٍ].
هذه من علامات حسن الخاتمة، وقد تقدم الحديث عليها، ومنها أن يختم للإنسان بقول "لا إله إلا لله"، ومن قال: "لا إله إلا الله" في آخر حاله من الدنيا؛ فإن الله عز وجل يحجبه عن النار على أحد الأقوال.
وقال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) أي: أنه إذا كان عاصياً أو عنده كبائر ذنوب وأراد الله أن يعذبه، فإن الله لا يخلده في النار، وأن أمره سينتهي به إلى الجنة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.