قال رحمه الله تعالى: [ويجوز قبل الخطبة وبعدها] قوله: [ويجوز قبل الخطبة] أي: يجوز له أن يتكلم قبل أن يخطب الخطيب، وذلك في حالة جلوس الخطيب بعد السلام وقبل ابتداء الخطبة.
وقوله: [وبعدها] أي: بعد الخطبة، وذلك حين ينتهي من خطبته وقبل دخوله في الصلاة، فلا حرج إذا قام الناس أن تشير لرجل وتقول له: تقدم.
أو تشير لرجل وتقول له: تأخر، لأجل تسوية الصفوف، فإن هذا الكلام لا حرج فيه.
فإذا كان الأصل أنه لا يتكلم الإنسان في حال خطبة الخطيب، فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو كان الإنسان أصم لا يسمع، فإن عموم النص يقتضي أنه لا يتكلم؛ لأن الأمر فيه معنى وفيه عبادة، فإن انتفى المعنى فالتعبد موجود فيه، ولذلك يُلزم الأصم بالسماع للخطبة والإنصات ولو لم يكن يسمع.
المسألة الثانية: لو قلنا: إن الخطيب يجوز له أن يخطب بغير اللسان العربي، فخطب بغير اللسان العربي، وكان المستمع عربياً، فإنه يُنصِت ويسمع؛ لمقام التعبد، كما لو صلى أعجميٌ وسمع الإمام يقرأ القرآن فإنه يُنصِت، مع أنه لا يفقه شيئاً من كتاب الله عز وجل.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في هذا الحكم: هي يختص بمن سمع الخطيب دون من كان بعيداً لا يسمع، أم هو عام؟ ومثال ذلك: لو كان المسجد صغيراً كما هو الحال في الأيام القديمة، وامتلأ بالناس حتى صلى المأموم خارج المسجد، بحيث لا يسمع صوت الخطيب، أو صلى داخله ولم يسمع صوت الخطيب.
فقال بعض العلماء: إذا كان لا يسمع الخطيب فيجوز له أن يتكلم، ولا حرج عليه في ذلك.
وهذا اجتهاد مبنيٌ على المعنى، وذلك أنهم رأوا أن المقصود أن يستفيد من الخطبة وينتفع، وأنه إذا لم يسمع الإمام ولم يسمع الخطبة، فإن إنصاته لا معنى له.
والصحيح أن فيه معنى التعبد، ولذلك يُلزم بالإنصات والسكوت، سواء أسمع الخطيب أم لم يسمع، على المختار من أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
المسألة الرابعة: لو كان بجوارك من يتكلم والإمام يخطب، وأردت أن تُسكِته، فإذا قلت له أنصت فقد لغوت، وإن سكتَّ شوش عليك بحيث لا تسمع.
ففي هذه الحالة اختار جمع من السلف أن تشير إليه بإصبعك أن: اصمت.
وذلك بأن ترفع السبابة وتضعها على الفم، إشارة إلى السكوت والإنصات، قالوا: فإذا أشار إليه بهذا فقد كفاه.
وهذا يختاره بعض العلماء، وممن اختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، وبعض السلف ينصُّون على هذا، وأنه لا حرج أن يخاطب بالإشارة.
وقال بعض العلماء: الإشارة منزَّلةٌ منزلة العبارة.
والصحيح أن الإشارة لا تأخذ هذا الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، والقول لا يكون إلا باللفظ المسموع، وبناءً على ذلك فإنه لا يؤثر أن يشير إليه بالإنصات، ولأن الإشارة بالإنصات ليس فيها انصراف، خاصة وأنه يسمع للخطيب.
وإذا نُظِر إلى المعنى ومقصود الشرع فإنه صحيح، فإنك لو تركته يتكلم ويشوش عليك فكأنك لم تنصت إلى الإمام أصلاً، فإنه بكلامه سيضيِّع عليك، ويجوز ارتكاب المفسدة الدنيا لمصلحة أعلى منها.
ولذلك نقول: إن إقباله على هذا وإشارته له بالإنصات أخف من كونه يسكت عنه، حتى يُضيِّع عليه الذكر والإنصات.
المسألة الخامسة: لو سأل سائل مالاً أثناء الخطبة فقد اختلف العلماء في جواز إعطائه وعدمه: فبعض العلماء يمنع من السؤال في المسجد، ولا يرى جواز أن يسأل السائل داخل المسجد، وهذا القول من القوة بمكان، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) فقد لا يجد ظهراً، وينشد ضالته في هذه الحالة مع وجود هذا الاضطرار والحاجة، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (فليقل: لا ردها الله عليك)، ويعزر بالتوبيخ والتقريع والدعاء عليه، فضياع الدابة بمثابة فقد المال، وطلبه للدابة كطلب المال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن المساجد لم تبن لهذا)، والأصوليون يقولون: إن جملة: (فإن المساجد)، كأنها تعليل لنهيه عن نشد الضالة في المسجد، قالوا: فلما قال: (فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، فمعناه: أن المساجد لم تبن للسؤال، وبعبارة أجمع: المساجد لم تبن إلا لذكر الله ولم تبن للدنيا، وهذا سائل دنيا.
ورخَّص بعض العلماء في سؤال السائل في المسجد، وفيه حديث علي المشهور أنه أعطى سائلاً يسأل في المسجد وهو راكع، فأنزل الله الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فأُثنِي عليه مع أنه أعطاه في المسجد.
والذي تطمئن له النفس التضييق على هؤلاء، وينبغي أن يكون بأسلوب مؤدب إذا أمكن، لكن الإنسان لو تورع عن منعهم، فإنه قد يكون أفضل له من ناحية الورع، والسبب في منعه -خاصة في هذه الأزمنة التي يقوم فيها الرجل ويتكلم كلاماً كثيراً- أنه يشغل الناس عن الأذكار بعد الصلاة، وقد يزعجهم ويقلقهم بأمورٍ الله أعلم هل هو صادق فيها أو كاذب، مع أن الأمر توسع أكثر من اللازم، وقد يكون فيه شيء من الكذب والاحتيال على الناس، ولو أن هذا الأمر نُظِّم ورتب عن طريق أئمة المساجد، بحيث لا يسأل إلا من كانت له بطاقة معينة لكان هذا أولى، حتى لا يكون فتحاً لباب أذية الناس في صلاتهم، فإنه إذا قام أمام الناس وذكر فجائعه ونكباته، وما نزَل به ضَيَّق على الناس وشوش عليهم، وأذهب الخشوع عنهم، وأشغلهم عن ذكر الله، خاصة أن القلوب طرية ندية قريبة من ذكر الله ومن الصلاة والعبادة، ومن الإقبال على الله عز وجل، وقد يصيح صياحاً يزعج الناس ويقلقهم، وقد يشوش على المصلين، وعلى من يقضي صلاته، فلأجل هذه المفاسد كلها يقوى القول أن يُصرف، فيقال له: إن شئت أن تسأل فاذهب إلى الباب، ولا تتكلم، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وإن امتنع الإنسان عن منعهم لقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فهذا تورع، لكن الحكم شيء والورع شيء آخر، فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يَسأل.
وعلى القول بأنه يجوز له أن يسأل، فلو سأل أثناء الجمعة، وكان الإنسان يستمع للجمعة، وأراد أن يعطيه فإنه ورد في هذه المسألة أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا رأى السائل يسأل أثناء الجمعة في المسجد حصَبه.
واستُشكِل هذا، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس الحصى فقد لغا)، واعتذر لهذا بأنه مسٌ لمقصودٍ شرعي، ولا يخلو هذا الاعتذار من نظر، لكن الذي يظهر صرفهم وعدم إعطائهم، والأقوى أنه لا يُعطى أثناء الخطبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.