بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فُرْجةٍ].
أي: إذا دخل يوم الجمعة لا يتخطى رقاب الناس.
وقوله: (إلا إذا كان إماماً)؛ لأن الإمام لا يستطيع أن يبلغ المنبر إلا عن طريق التخطي، وخاصة أن الإمام لا يدخل إلا وقت الصلاة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل إلى السلالم مباشرة، ولم يكن يصلي تحية المسجد، ولذلك مذهب المحققين من العلماء، أن السنة للإمام أن يدخل مباشرة إلى المنبر، وألا يصلي تحية المسجد، لكن لو كان هناك وقت وأراد أن يصلي تحية المسجد وأن يجلس فلا حرج، لكن لو دخل في وقت الصلاة فالسنة له أن يدخل إلى المنبر مباشرة، وأن يبتدئ بالسلام على الناس، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، ويعتبر مستثنىً من العموم بالأمر بتحية المسجد.
بعض العلماء يجيب في هذه المسألة بجواب لطيف، فيقول: إن جلوسه عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزوال.
أي: جلس في وقت منهي عنه، وهذا يقوي مذهب من يقول: إنه من دخل في وقت منهي عنه يجلس ولا يصلي.
وتوضيح ذلك أن حديث ابن سيدان حمله العلماء على أنه عند الزوال، بمعنى أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان في وقت منهي عنه.
ضبط الزوال ضبطاً دقيقاً يحتاج إلى شيء من الموازين الدقيقة جداً، ولذلك حدده الصحابة بالتقريب، فقال جابر: حين تزول الشمس، وكان حديث أنس كذلك: (حين يصلي ويخطب) أي: حين تزول الشمس، وهذا -كما يقول العلماء- يرخص فيه، لكن على هذا الوجه الأخير أنه (كان دخوله أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء).
فمن دخل أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وكان يرى هذا القول لا يصلي ويجلس.
ومن دخل قبل أو بعد فإنه يتسنن إعمالاً للأصل الذي يأمر بتحية المسجد.
وقوله: (ولا يتخطى رقاب الناس) لأن فيه وعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدّه بعض العلماء أنه من كبائر الذنوب؛ لما فيه من أذية المصلين والتشويش عليهم، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يؤذي المصلين، ويستثنى الإمام، أو من له فرجة، بمعنى أنه لو خرج لقضاء حاجة -كإنسان أصابه الحصر فخرج للوضوء ثم رجع إلى مجلسه- فهو أحق به، كما في الصحيح: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به)، فهذا نص، فكونه يخرج لقضاء حاجته ثم يعود فهو أحق بمجلسه، فلما أذن له الشرع بهذا المجلس جاز له أن يتخطى؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما كان من لازمه أن يتخطى فلا حرج عليه أن يتخطى، ولا إثم عليه في ذلك.
وقالوا: لو رأى فرجة في الصف الأول، أو في الصف الثاني فإنه يمضي إليها ويتخطى؛ لأن من وراء هذه الفرجة من الصفوف مقصر في سد هذه الفرجة، فيجوز له أن يتخطى وهذا محل إشكال.
والذي يظهر أن من الأولى والأحرى أن يحتاط الإنسان وأن لا يتخطى، حتى ولو رأى فرجة؛ لأن المعنى الذي من أجله منع موجود في التخطي للفرجة، وتقصير غيره لا يوجب الاعتداء عليه بالتخطي.
واختلف العلماء في كون النهي عن التخطي مخصوصاً بيوم الجمعة، أو يشمل.
فقالوا: لو كان هناك حلقة ذكر وجاء إنسان يتخطى؟ يشرع منعه؛ لأن المعنى موجود، فلو جاء إنسان في حلقة كبيرة ورأى الناس مجتمعين، وجعل يتخطى رقابهم حتى يصل إلى المقدمة، فهذا فيه ظلم لهم؛ لأنه تأخر، والمتأخر يجلس حيث انتهى به المجلس -كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما كونه يتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإنه يذهب الخشوع، فربما سمعت الإمام وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الموعظة فتأثرت بالموعظة والقرآن، ثم تفاجأ بمن يأتيك فجأة فيضع رجله على عاتقك، أو يضع رجله بجوار كتفك، فإن هذا يزعج، والنفس البشرية ضعيفة، فإن الناس إذا تخطيت رقابهم انشغلوا عن الخطيب وتأثروا بذلك، وقال العلماء: المعنى موجود حال الخطبة وغير الخطبة، ولكنه حال الخطبة أشد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للرجل لما جاء متأخراً وتخطى وهو يخطب: (اجلس فقد آنيت وآذيت)، ومعنى: (آنيت) جئت متأخراً، وليس هذا وقتك التي تبحث فيه عن الصفوف الأول، (وآذيت) أي: بتخطيك لرقاب الناس.
فالصحيح أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، وأن التشويش على المصلين بتخطي رقابهم وأذيتهم لا يجوز.
واستثنى العلماء لو أنه أراد أن يمر واستأذن وأذنوا له، أو رأى فرجة بينهم قليلة يستطيع أن يمر منها؛ فقالوا: لا حرج، فهذا ليس من التخطي؛ لأن التخطي المراد به المجاوزة حيث لا توجد الفرجة، أما لو وجددت الفرجة وانخرط فيها، أو سلك فيها فلا حرج.