قال رحمه الله تعالى: [ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: [ويكثر الدعاء] أي: يوم الجمعة، والسبب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم -أو قال: مؤمن- يسأل الله شيئاً إلا أعطاه) أياً كان هذا الشيء من خيري الدنيا والآخرة.
ومعنى ذلك أنه يشرع الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، ويسن الإكثار منه، ولذلك لما كان قيام ليلة القدر له فضله شرع في العشر الأواخر أن يحيا ليلها بالقيام، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شد المئزر وأحيا ليله، فلما نبه الشرع على أن: (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه) دل على أنه يشرع ويسن الإكثار من الدعاء حتى يصيب الإنسان هذه الساعة، يقول العلماء: التنبيه على الساعة دعوة إلى الإكثار من الدعاء؛ لأنه لما نبه على أن هناك ساعة فكأنه يقول: ادعوا وأكثروا من الدعاء علكم أن توافقوا هذه الساعة.
والعكس بالعكس، فإذا منع الشرع، أو كان هناك رجاء إجابة وخيف من دعوة ظالمة يمنع من الدعاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لكم)، فحذر ومنع؛ لأن هناك ساعة يستجاب فيها الدعاء، فمنع من الدعوة التي فيها ضرر.
والساعة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم قليلة؛ لأن الرواية الصحيحة تقول: (أشار بيده يقللها) حتى قال بعض العلماء: إنها برهة من الوقت وجاء في بعض الأحاديث أنها ساعة كاملة تشمل جزء النهار، والنهار اثنتا عشرة ساعة كما في الصحيح، فهي ساعة بكاملها، وهي ستون دقيقة، وإن كان الأقوى في رواية الصحيح أنها ساعة يقللها عليه الصلاة والسلام.
وقد اختلف العلماء في وقت هذه الساعة: فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنها بعد ارتفاع الشمس بقدر ذراع أي: بعد الارتفاع بقليل، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا الوقت منهي فيه عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي)، فدل على كونها في وقت صلاة، وإن كان اعتبر بعض العلماء هذا بأنه إذا جلس بعد صلاة الفجر ينتظر الإشراق وينتظر الصلاة يكون في حكم المصلي ولكن هذا محل نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أي: الصلاة المفروضة، وهذا يجعله لا يوافق هذا الفضل إلا إذا كان جالساً في مصلاه بعد الفجر إلى أن يصلي الجمعة، وهذا من المشقة بمكان.
وقال بعض العلماء: تكون بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة إلى طلوع الشمس، وهذا أيضاً مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مشكل؛ لأن هذا الوقت أيضاً ليس بوقت صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النافلة فيه، ولذلك يضعف أن يكون هذا الوقت وقت إجابة؛ لأن تلك الساعة يكون فيها العبد مصاحباً للصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي)، كما في رواية مسلم.
وقال بعض العلماء: إنها من بعد الزوال مباشرة.
أي: من حين أن يبدأ الزوال تكون هذه الساعة، وهذا القول فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قبل صلاة الظهر أربعاً قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، ولما التقى شيخ الإسلام -رحمه بالله- بالتتار كان يقول للقائد: انتظر -أي: لا تبادر المعركة- حتى تزول الشمس وتهب الرياح، ويكون الوقت أرجى لقبول الدعاء ساعتها، ويدعوا المسلمون على المنابر.
فهذا الوقت من أرجى الأوقات، وهو من بعد زوال الشمس، أو من بداية زوال الشمس.
وبعض أصحاب هذا القول: من بعد الزوال ولو لحظة أي: بعد أن تزول الشمس يقوم الإنسان ويصلي بعد زوالها مباشرة.
القول الرابع: أنها من بعد الزوال إلى أن تنتهي الصلاة.
القول الخامس: أنها من حين يشرع الإمام في الخطبة إلى أن تنتهي الصلاة.
القول السادس: أنها من حين يشرع في الخطبة إلى أن تقام الصلاة.
القول السابع: أنها عند إقامة الصلاة.
القول الثامن: أنها أثناء إقامة صلاة الجمعة، أي: من حين تقام الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم.
القول التاسع: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس.
القول العاشر: أنها قبل غروب الشمس بساعة.
القول الحادي عشر: أنها في الثلاث الساعات التي قبل غروب الشمس.
والأفضل والأولى وهدي السنة أن يسكت عن هذه الساعة؛ لأن الشرع سكت، وما ورد من الأحاديث فهو متعارض، مثل حديث أبي سعيد مع حديث أبي ذر، فالأحاديث فيها معارضة، مع أن الصحابة كانوا يفهمون هذا.
لكن الأقوى من ناحية النص والدليل أنها تكون في وقت تشرع فيه الصلاة، وهو من طلوع الشمس قيد رمح، إلى أن تصلى صلاة العصر، ويستثنى أثناء الزوال، وبعض العلماء لا يستثني وقت الزوال؛ لأنه يرى أن ساعة الزوال في يوم الجمعة مرتفعة، أي: ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)، فمن بعد طلوع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر هذا هو الوقت المشتمل، وأما ما عدا هذا من الأقوال فإنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي).
وأما القول بأنها بعد العصر فبناءً على أنه إذا جلس ينتظر صلاة المغرب أنه في صلاة، وأما ما أثر عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة فمشكل؛ لأنه قال: (وهو قائم)، ولم يقل: وهو يصلي.
مع أنه جاء في بعض الروايات: (وهو يصلي)، لكن رواية: (وهو قائم يصلي) تؤكد على أنها صلاة ذات ركوع وسجود، وكونه يقال: إنه إذا انتظر الصلاة فهو في صلاة فهذا حكم الصلاة، وفرق بين الحكم والوصف، فلو قال عليه الصلاة والسلام: (وهو يصلي) لاستقام القول، لكن لما قال: (وهو قائم يصلي) فالقيام يدل على وجود الفعل للصلاة بذاتها.
والذي تطمئن له النفس أنها ساعة من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر، ما خلا ساعة الزوال، على أصح أقوال العلماء من أن ساعة الزوال في يوم الجمعة وفي غيرها على حد سواء يمسك فيها عن الصلاة، خلافاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد استدل بحديث رواه في مسنده وهو حديث ضعيف، وفيه استثناء يوم الجمعة، والصحيح: أن ساعة الزوال أو ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء لا يصلى فيها للإطلاق في النصوص، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده من الأدلة الصحيحة.
كما أن الذي تطمئن إليه النفس أنه يمسك عن تحديد هذه الساعة؛ لأنه منهج الشرع، ولذلك جاء في ليلة القدر أن الأفضل أن يمسك عنها؛ لأنه أدعى إلى اجتهاد الناس وإقبالهم على العبادة، وبعض العلماء رحمة الله عليهم كان يستغرب من إهمال أول النهار، فيقول: إن الأقوال كلها انصبت على آخر النهار، وانصبت من بعد الزوال، مع أن ساعة الضحى تعتبر من ساعات الغفلة، ويوم الجمعة الناس فيه أكثر بيعاً وشراءً ولهواً في الدنيا، ولا يقبل على العبادة في مثل هذا الوقت إلا من كان حاضراً فقط، مع أنها ساعات فضل بالتبكير إلى الجمعة، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يطمئن إلى الساعات في أول النهار، ولكن الأفضل والأولى أنه شيء سكت عنه الشرع، فإذا لم يرد الدليل الصحيح الصريح فإنه يبقى على الإطلاق الذي أطلق الشرع فيه هذه الساعة، خاصة وأنهم لما قالوا: بعد صلاة العصر فإن ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت طويل، وقد جاء في الحديث: (أشار بيده يقللها)، وكذلك من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فقد يصل إلى أكثر من ساعة، ولذلك يضعف هذا القول، ويقوى القول الذي يقول: إنها في ساعة تباح فيها الصلاة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.
قوله: [ويكثر الدعاء]، هذا أمر يضيعه كثير إلا من رحم الله، فالناس عندما كانت قلوبهم مملوءة بالخير وبإعظام الله جل جلاله، وكان الدين قوياً كانوا في مثل هذه الأيام المباركة يكثرون من ذكر الله عز وجل، ومن سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، ولكن قلّ أن تجد اليوم من يعمر أوقاته في يوم الجمعة بذكر الله عز وجل، وهذا من الغفلة، وقد كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن، وكذلك من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) وسألت نفسك: كم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لوجدتها صلوات معدودة، بل إنك قد تجد من الناس من لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاته، أو حين يأمر الخطيب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غفلة الناس.
فهذا اليوم مأمور بالإكثار فيه من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستحي العالم وطالب العلم والعامي أن يعرض اسمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه إلا النزر القليل، ولذلك على الإنسان أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ويأمر أبناءه وأهله بهذه السنة التي أضاعها الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً)، وهذا فضل عظيم، وفيه أجر كثير للإنسان، فعلى الإنسان أن يكثر من الصلاة والسلام على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكانوا يقولون: من نعم الله التي أنعم بها على أهل الحديث ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
واختلف العلماء في الأفضلية في يوم الجمعة: هل هي أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من ا