قال رحمه الله: [ويسن أن يغتسل لها].
أي: يسن للإنسان أن يغتسل لصلاة الجمعة، والسبب في هذا أن بعض الصحابة كانوا يقدمون على الجمعة من العوالي ومن قباء، ومن نحوها من الأماكن التي هي من ضواحي المدينة، وكانت الأرض أرض زراعة، فإذا مشوا في الطريق يغشاهم الغبار والتراب، قالت أم المؤمنين: فَعَلَتِ المسجد منهم زهومة بمعنى أنه مع عرقهم وما يكون في الثياب من عرق فاحت هذه الرائحة في المسجد، وتضرر الناس، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام صغيراً، فتضرر الناس بذلك، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يغتسلوا للجمعة، وهذا يدل على أن السنة أن يغتسل، وهذا الاغتسال فيه حكم عظيمة: أولها: أنه يقوي نفس الإنسان على ذكر الله عز وجل، وذلك أن الاغتسال يقوي الإنسان وينشطه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا دخل إلى مكة اغتسل بذي طوى)، وذي طُوى مثلث الطاء، ويسمى الآن الزاهد، اغتسل فيه عليه الصلاة والسلام ونزل وطاف، وهذه سنة يضيعها كثير من المعتمرين إلا من رحم الله، فمن السنة أن يغتسل الإنسان قبل الطواف؛ لأنه إذا اغتسل قويت نفسه، خاصة وأنه قد جاء من السفر في عناء وتعب، فإذا طاف وهو قوي النفس نشيطاً مرتاح البال، مع وجود الاستجمام بإصابة الماء للبدن، قويت نفسه على ذكر الله واستجمت، وأصبح في جلد على الطواف والسعي، فالاغتسال يقوي النفس.
ثانياً: أن الناس يحضرون ويدخلون يوم الجمعة، فإذا اجتمعوا في المسجد ولم يغتسلوا علت منهم الزهومة، وأضر بعضهم ببعض، وهذا جعل بعض العلماء رحمة الله عليهم ينبه على أن الإنسان إذا دعي إلى حلق الذكر ومجالس العلماء التي يكثر فيها الناس أنه يفضل أن يغتسل لها، لا بقصد العبادة، وإنما بقصد المعنى الذي قصده الشرع من الاجتماع، وفرق بين أن يغتسل بقصد القربة والعبادة، وبين أن يغتسل من أجل دفع ضرر النتن الذي قد يكون في ثيابه، أو يكون بسبب الازدحام مع غيره، فقالوا: إن الغسل يوم الجمعة يدفع عن الناس ضرر الرائحة الكريهة.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الجمعة والذهاب إليها: (من غسّل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب) إلى آخر الحديث، وقد اختلف العلماء في قوله: (غسل واغتسل): فمنهم من يقول: (غسل واغتسل) معناهما واحد، والمراد به تأكيد الغسل.
ومنهم من يقول: (غسل) أي: تسبب في غسل زوجته، بناء على أنه يصيب أهله قبل أن يذهب إلى الجمعة، فإنه إذا أصاب الأهل قبل ذهابه إلى الجمعة انطفأت الشهوة، فكان أغض لبصره، وأحصن لفرجه، وأبعد له عن الفتنة، فإذا أقبل على الذكر أقبل بنفس مطمئنة، ويكون منشرح الصدر، بعيداً عن الوساوس والخطرات، خاصة وأنه في يوم الجمعة لا يأمن من وجود الاختلاط الذي قد تصاحبه فتنة النظر.
وقال بعض العلماء: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه واغتسل لسائر جسده.
وقال بعضهم: قوله (غسل) أي: أنه توضأ، (واغتسل) أي: غسل جميع بدنه.
وهذه كلها أوجه لها ما يبررها ويدل على اعتبارها، وقال بها جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وقول المصنف: [يسن] السنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فلو قلنا: دعاء الاستفتاح سنة فإن من كبّر وقرأ الفاتحة مباشرة لا يأثم، وهكذا الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) بعد التسميع والتحميد، وكذلك: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فإن هذه الأدعية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقوله: [يسن أن يغتسل] أي أنه إذا اغتسل فأفضل، وإذا لم يغتسل فلا إثم عليه، وهذا مذهب طائفة من العلماء.
والصحيح: مذهب الظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث أن غسل الجمعة واجب، وذلك للأمور الآتية: أولاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف صحيح.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
ثالثاً: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة، فقال له عمر: (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضاً) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفاً أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب.
ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيراً فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعاً، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة.
أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون، فمثلاً: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخّر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء، ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريباً جداً من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه.
لكن لو أن إنساناً صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟ الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريباً من الخروج، وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيداً بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقياً لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]: أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تُعقِّب فيها صاحب المتن بأن فيها نظراً، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه، فإذا كان الكلام مستقيماً والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعناداً، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ، فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها.
فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذٍ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة.
وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن.
فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة، فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر.
والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمناً ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقاً، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة.
وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بيّن ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن، وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين: إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال.
وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.