بيان مقدار السنة بعد الجمعة

شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها، فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]، وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.

وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات)، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال: فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعاً، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بيّن أن السنة يوم الجمعة ست ركعات.

فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعاً، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعاً بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعاً بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع.

ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات.

ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعاً في المسجد.

ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستاً، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه.

والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت)، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال، وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة، أي: ليس لها سنة راتبة.

واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني: فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني.

وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنساناً صلى لا ينكر عليه، خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها، ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة.

ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني، وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان، وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عيناً، أما لو صلى مطلق الصلاة، أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فإنه لا ينكر عليه، خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظراً إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به.

قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست].

أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة.

فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة: (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015