قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم].
أي: تجب الجمعة على كل ذكر.
وقلنا: إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع.
وقوله: [ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن، ولذلك قالوا: إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة.
وقوله: [حر].
خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية، وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر.
وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب، وهذا الحديث تكلّم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة، فقالوا: إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة.
والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال.
قوله: [مكلف].
التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صلِّ الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد.
وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها، وهذا إذا كان مميزاً لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه.
فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرِّق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها.
والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين، وقد نظمها من قال: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلاً على كونها بالغة.
وقوله: أو بمن أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه.
وقوله: (أو بإنبات الشعر).
أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلاً على البلوغ، أي: ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه.
وقوله: أو بثمانية عشر حولاً ظهر الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر.
والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، فلما قال: (مكلفٍ) أشار إلى هذين الشرطين.
وقوله: [مسلم].
خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم.
ومن يقول: إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه.
قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق].
أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطناً ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمِّع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل، ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين.
وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفاً فإنهم يرتحلون شتاءً، ولو استوطنوا شتاءً فإنهم يرتحلون صيفاً، ولو استوطنوا ربيعاً فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمِّعوا، فدلّ على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها.
قوله: [اسمه واحد ولو تفرق].
أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة.
قوله: [ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ].
أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر، ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر.
ويقوِّي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلاً- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهراً، فإن نزل وجمَّع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه: لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة.
لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو متراً فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلاً- أربعون كيلو متراً وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو متراً، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة، ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو متراً من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة.
بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمِّع مع أهلها.