قال رحمه الله تعالى: [وتصح خلف إمام عالٍ عنهم].
إن كانت الأرض التي يقف عليها الإمام والمأموم واحدة فلا إشكال، وهذا الأصل في موقفه عليه الصلاة والسلام.
لكن هناك حالة يرتفع فيها الإمام ويكون المأموم أنزل منه، وحالة يكون الإمام في أرض هي أدنى في الارتفاع من أرض المأموم.
فأما إذا علا الإمام فإنه لا يعلو إلا من ضرورة وحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه قال لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها) فصنع أعواد المنبر، قال سهل: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليها فكبر -أي: كبر تكبيرة الإحرام على المنبر- ثم ركع، ثم رفع -وهو على المنبر- ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم رفع ثم سجد، ثم رفع ثم صعد المنبر، ثم كبر فركع، ثم رفع، ثم رجع القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم قال: إنما صنعت هذا -أي: كوني صليت على المنبر- لتأتموا بي)، واللام للتعليل، أي: من أجل أن تأتموا بي فتروني، (لتأتموا بي ولتعلّموا صلاتي).
فللعلماء في هذا وجهان: فمنهم من قال: لا حرج عندي في ارتفاع الإمام عن المأمومين، ولا بأس بذلك؛ لأن السنة دلت عليه فلا حرج.
ومنهم من قال: لا يجوز للإمام أن يرتفع عن المأمومين، وإن ارتفع من غير حاجة فإنه يأثم.
وشدد بعضهم فقال بعدم صحة الصلاة والاقتداء إذا كان الارتفاع بدون حاجة، خاصة إذا قصد به الكبر والترفع، والعياذ بالله.
وأكدوا هذا بما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع ابن مسعود، فإن حذيفة حينما صلى بأصحابه وهو على دفة الدكان القديمة وقف عليها رضي الله عنه والمأمومون وراءه، فلما رآه ابن مسعود جاء وجذبه فأنزله، فلما سلم قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا؟ قالوا: فدل على أنه منهي عنه، وأنه لا يجوز، قال: قد علمت، أو تذكرت حينما جذبتني.
فدل على أن ارتفاع الإمام عن المأمومين الأصل فيه الحظر والمنع.
وهذا القول هو الصحيح، فلا يرتفع الإمام عن المأمومين إلا إذا وُجدت حاجة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)، فكأنه ارتفع بقصد التعليم، فقالوا: لو زار عالم أناساً لا يعرفون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فأحب أن يكون في موضع يراه الجميع فيعلمون صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في انتقاله وفي وقوفه وفي ركوعه وسجوده، فصلى على نشز أو مرتفع فلا حرج.
ويكون بقدر المنبر، فلا يرتفع ارتفاعاً فاحشاً؛ لأنه هو الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحاجة تتحقق بمثل هذا، فقالوا: لا حرج.
أما إذا لم توجد الحاجة فلا.
قال رحمه الله تعالى: [ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر كإمامته في الطاق].
ذلك لأنهم حزروا وقدَّروا منبره عليه الصلاة والسلام -الذي هو ثلاث درجات- بهذا القدر؛ لأنه لا يقل عن ثلاثة أشبار، وبناءً على ذلك قالوا: لا يزيد على ذراع، فإذا زاد على ذراع قالوا: إنه في هذه الحالة يكون مكروهاً.
ونص بعض العلماء على حرمته؛ لقوله: كانوا ينهون عن ذلك.
والأصل في النهي أنه يُحمل على أعلى درجاته، إلا إذا دل دليل على ما هو أدنى من ذلك، أعني الكراهة.
قوله: [كإمامته في الطاق] الطاق هو: المحراب، أي: دَخْلة المحراب، وكان السلف كـ ابن مسعود وغيره يشددون في ذلك ويمنعون منه، خاصة أن في القديم ما كان هناك سماعات، فإذا دخل الإمام في الطاق داخلاً لم يروه، وبناءً على ذلك تخفى على بعض الناس الذين هم في أطراف الصف أفعاله، ولذلك قالوا: لا يصلي داخل الطاق، وكرهوا ذلك، وشدد فيه بعض أئمة السلف كالإمام مالك رحمة الله عليه وغيره.